قال تعالى: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [العنكبوت:65] يذكرهم بنعمه عليهم سبحانه إذا ركبوا في السفينة أو في المركب: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [العنكبوت:65] وهنا دلالة الاقتضاء تقتضي أن هنا شيء محذوف، والتقدير: إذا ركبوا في الفلك، ثم هاجت الأمواج والرياح، وتلاطمت بهم الأمواج، إذا بهم يخافون من الغرق: {حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ * فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} [يونس:22 - 23].
وهذه عادة الإنسان في وقت شدته يقول: يا رب! يا رب! وفي وقت رخائه ينسى ربه سبحانه وتعالى، وهنا يقول الله: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ} [العنكبوت:65] مشيراً إلى شدتهم، ففي وقت شدتهم: {دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ} [العنكبوت:65] يا رب! نجنا يا رب! نجنا: {دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [العنكبوت:65]، فتوجهوا إليه وحده، فلما كانوا في الفلك وجاءت الريح العاصفة: {ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ} [الإسراء:67] فدعوا الله وحده سبحانه.
ثم قال: {فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} [العنكبوت:65] إذا هم يشركون بالله فيدعون غير الله سبحانه، وكان أهل الجاهلية على ذلك، وكذلك الكثيرون من الناس اليوم على ذلك، فحينما يشتد بهم الكرب يقولون: يا رب يا رب! فإذا انتهى الأمر يقول أحدهم: يا سيدي فلان! يا سيدي فلان! ويدعون غير الله سبحانه وتعالى، وقد عرفنا قصة عكرمة لما فر من النبي صلى الله عليه وسلم وكره أن يدخل في هذا الدين العظيم، وركب في السفينة، فإذا بالبحر يعلو، والريح تشتد، ويأتي ربان السفينة ينادي على الناس: إنه لا ينجيكم إلا الله، ادعوا الله، فهنا جاء التوحيد، عرفوا الله عز وجل وهم في السفينة، وكان أهل السفينة مشركين، فـ عكرمة بن أبي جهل فكر في ذلك، وسبحان من يمن على من يشاء بفضله سبحانه، أبوه أبو جهل ذاك الملعون الذي حارب النبي صلى الله عليه وسلم حتى قتله الله عز وجل في يوم بدر، وصار إلى لعنة الله وناره، وهذا ابنه عكرمة كاد يكون كأبيه ولكن أدركته رحمة رب العالمين سبحانه.
فركب البحر فاراً من النبي صلى الله عليه وسلم، لا يطيق أن يكون في مكان مع النبي صلى الله عليه وسلم، فلما ركب وعلت الأمواج وقال ربان السفينة: إنه لا ينفعكم ولا ينجيكم إلا الله، فإذا به يتدبر في الأمر ويتفكر: إذا كان لا ينجينا في البحر إلا الله فلا ينجينا في البر إلا الله.
فلا يستحق أن يعبد إلا الله، وأخذ على نفسه عهداً لئن أنجاه الله عز وجل ليذهبن إلى النبي صلى الله عليه وسلم وليبايعنه، وليجدنه رءوفاً رحيماً، فكان أن أنجاهم الله، وذهب عكرمة للنبي صلى الله عليه وسلم، وسلم عليه بالإسلام وأسلم رضي الله تبارك وتعالى عنه.