قال سبحانه: {وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ} [العنكبوت:64] الحياة الدنيا: هي الحياة التي يحياها الإنسان، لذا سميت حياة، والدار الآخرة حياة، ولكن ليست كهذه الحياة، بل هي حياة أخرى؛ ولذلك يقول تعالى عنها: {وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ} [العنكبوت:64] يعني: دار الحياة الدائمة، ودار الإقامة الدائمة التي لا تفنى ولا تزول.
فقال هنا: {وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ} [العنكبوت:64] وعندما تقارن بين الدنيا وبين الآخرة فإنك تجد أن الدنيا لا تساوي شيئاً، قال تعالى: {وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ} [العنكبوت:64] يعني: مهما جد الناس فيها، ومهما أخذوا بالأسباب فهم في لعب إذا قاسوا ذلك بالآخرة.
ويوم القيامة يتذكر الناس هذه الحياة الدنيا فيقول بعضهم لبعض: كم لبثنا فيها؟ {قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ} [الكهف:19] لم نقعد في هذه الدنيا إلا يوماً أو بعض يوم، {إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْمًا} [طه:104].
يقولون: يا ترى كم لبثنا في هذه الدنيا؟ عشرة أيام مثلاً! ((يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْمًا)) هو يوم واحد الذي لبثناه في الدنيا، لأنهم عندما يقيسون الدنيا بالآخرة يكون الفرق كبيراً جداً، فيوم القيامة وحده مقداره خمسون ألف سنة، والإنسان إذا عاش ستين سنة أو سبعين سنة أو أكثر أو أقل من ذلك، ثم أتى يقارنها بيوم مقدراه ألف سنة فإنه يرى أنه كان يلعب في هذه الحياة الدنيا، وعلى سبيل المثال عندما تقول: قارن بين الموظفين الذين يشتغلون في مصر، والموظفين الذين يشتغلون في الخارج، تجد الذي يشتغل في أمريكا يقول لك: أنا أشتغل من الصبح حتى الليل، وأرجع إلى البيت لأنام فقط، ولا أحس براحة أبداً، وأذهب إلى الشغل في اليوم الثاني، والموظف هنا في مصر يقول عن نفسه: أنا لا ألعب، بل أنا أشتغل وأتعب وأشقى، لكن عندما نقارنه بإنسان آخر يشتغل أحسن وأفضل منه ويشقى في عمله، نقول له: هذا الذي تفعله ليس عملاً إنما هو لعب.
كذلك الحال عند مقارنة الدنيا بالآخرة، ففي الدنيا يذهب الإنسان ويأتي ويقعد ويقف وينام، أما في الآخرة فإنه سيقف خمسين ألف سنة بين يدي الله تبارك وتعالى: {فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} [المعارج:4].
وفي هذا اليوم من شدة وهول الموقف ينظر الناس إلى مناظر فظيعة، فيرون مانع الزكاة يؤتى بزكاته فتحمى في النار ثم يكوى بها في هذا الموقف، وإذا كانت من بهيمة الأنعام يؤتى بها كلها في قاع قرقر ويبطح لها هذا الإنسان فتمشي عليه الأنعام مدة خمسين ألف سنة، {فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} [المعارج:4] حتى يرى مصيره إما إلى الجنة وإما إلى النار، فينظر الناس إلى ذلك وهم واقفون ينتظرون الحساب، وفصل القضاء بين العباد، ومن شدة هذا الموقف يقول بعض الناس: يا رب! اصرفنا ولو إلى النار، اصرفنا ولو إلى النار.
فإذا تذكروا الدنيا يقولون: إنها دنيا دنية ما الذي كنا نعمل فيها؟ وما هو المرض الذي أصابنا في الدنيا؟ وما هو البلاء الذي جاء لنا في الدنيا؟ لا شيء لا شيء إذا قورن بهول هذا اليوم، فإذا دخلوا النار عرفوا حقيقة ما كانوا فيه من لعب ولهو في الدنيا، ومن تضييع وتفريط، وعرفوا قول الله سبحانه: {وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ} [العنكبوت:64] الحياة الدنيا لهو يلهو فيها الإنسان، ولعب يلعب فيها الإنسان، فعندما يقول: أنا أعبد ربي في هذه الدنيا، فيقال له: انظر كم ساعة تنامها في اليوم؟ وكم ساعة تدخل فيها الخلاء؟ وكم ساعة تأكل فيها؟ وكم ساعة تتكلم فيها؟ وكم ساعة تصلي لله عز وجل؟ فلو جمعت وقت الصلوات كلها في اليوم فستجد أنه لا يساوي شيئاً مقابل أربع وعشرين ساعة هي مجموع ساعات اليوم الواحد، وقد يقف الإنسان يتكلم مع أصحابه ويضحك ساعات طويلة، فإذا جاء إلى عبادة الله عز وجل إذا به يتضجر بسرعة.
فيستشعر العبد يوم القيامة أنه كان في لهو ولعب، إلا الذين اتقوا الله سبحانه وتعالى، وعرفوا أن الأعمار غالية، وأن الدنيا لن تأتي مرة ثانية، فانتهزوا هذه الدنيا وخافوا على أعمارهم أن تضيع سدى وهباءً، فإذا بهم يعملون في هذه الدنيا بكل وسيلة وحيلة يتقربون فيها إلى الله عز وجل، بالليل يقومون لله سبحانه وتعالى، فإذا ناموا كانت نيتهم ليقوموا لله عز وجل، وليعبدوا الله سبحانه وتعالى، ولعل أحدهم يتمنى لو أنه لا ينام، وأنه يقدر على أن يتفرغ الليل والنهار لعبادة الله سبحانه وتعالى، حتى كان بعض السلف يقول لله من كثرة صلاته واستمتاعه بصلاته: يا رب! إن كنت جعلت لأحد يصلي في قبره فاجعلني أصلي في قبري! من كثرة ما استمتع بالصلاة بين يدي الله سبحانه وتعالى، وكانوا يصومون لله سبحانه ويستمتع أحدهم بصيامه في الهواجر كما يستمتع أحدنا بإفطاره وشرب الماء البارد في اليوم الحار، وقد عرفوا الثواب العظيم من وراء ذلك، عرفوا أن الذي يصوم يوماً يبعد عن النار بمقدار سبعين خريفاً، فالمؤمنون المتقون المحسنون عرفوا أن الأعمار فرصة لا تعوض، فانتهزوا ليلهم ونهارهم، كانت هممهم عبادة الله عز وجل في كل حال، تجد الشخص في قيامه في نومه في عمله يعبد الله عز وجل.
فعندما تذهب إلى عملك تحسن عملك وتتقنه؛ لأنك تعلم أن الله يراقبك، فتؤجر على ذلك، تتعب وتشقى في العمل، وترجع إلى بيتك وقد كلت يداك من كثرة العمل؛ فيأجرك الله سبحانه حتى اللقمة تجعلها في فيّ امرأتك يكون لك أجر في ذلك.
فكان عملك عبادة بهذا المعنى، تصلي لله سبحانه، وتصوم لله، ولذا تجد بعض الناس يترك الصلاة والصوم ويقول: أنا أعمل للأولاد والعمل عبادة وهو مفرط في حق الله سبحانه، فلابد أن يأتي بالواجبات والفرائض كما أمر الله سبحانه، ويعمل عمله الذي هو عليه فرض ليطعم نفسه ويكفي عياله، ويتقن في عمله حتى يكسب من حلال فيدعو ربه سبحانه، فيستجيب الله عز وجل له.
فالحياة الدنيا لهو ولعب إلا ما كان فيها من ذكر لله، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (الدنيا ملعونة ملعون ما فيها)، الدنيا لا تساوي شيئاً، ولا تستحق إلا أن تكون ملعونة ملعوناً ما فيها: (إلا ذكر الله وما والاه).
الإنسان الذاكر لله عز وجل هو الذي يستحق رحمة رب العالمين، قال تعالى: {وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} [العنكبوت:45] فالذكر من العبادات لله عز وجل التي خلق الإنسان من أجلها: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56].
قال سبحانه وتعالى: {وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ} [العنكبوت:64] إذا كان في عمل للدنيا، أما إذا كان لله فهو الجد كل الجد، قال تعالى: {وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ} [العنكبوت:64] دار الحياة الباقية التي لا تزول ولا موت فيها: {لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [العنكبوت:64] هم لم يعلموا، ولكن هي الآخرة سوف يعلمون ذلك.
والله عز وجل يقول: {لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [العنكبوت:64] وكأن العلم هنا علم آخر غير العلم الذي هو بمعنى المعرفة، فالعلم هنا: هو اليقين المنافي للشك، فلو بعد عن قلوبهم الشك، وعرفوا أنهم راجعون إلى الله، وأنه مجازيهم لكانوا يعلمون: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} [الأنعام:37]، بمعنى: لا يعلمون علماً يدفعهم إلى العمل ويمنعهم عن المعاصي.