قال تعالى: {وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ} [الشعراء:130]، هذه مصيبة أخرى من مصائبهم، فقد كانوا كفاراً فدعاهم هود إلى الله سبحانه وتعالى، وكانوا أهل لهو وعبث فدعاهم إلى ربهم سبحانه أن يتوبوا ويتركوا هذا اللهو والعبث، ويأتوا لعبادة رب العالمين سبحانه وتعالى، ومن مصائبهم أن بطشهم كان شديداً، وأصل البطش: الإمساك، وجاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم في الصعقة التي تكون يوم القيامة يقول: (يصعق الناس فأكون أول من يفيق -صلوات الله وسلامه عليه- فإذا بموسى عليه الصلاة والسلام باطش بساق العرش، فلا أدري أفاق قبلي أم لم تصبه هذه الصاعقة)، فلا يدري النبي صلى الله عليه وسلم هل موسى قام قبله صلى الله عليه وسلم أم هو ليس ممن صعقوا في هذه الصاعقة، ومعنى باطش: أي بساق العرش.
ومنه حديث النبي صلى الله عليه وسلم عن رب العزة سبحانه في عبده المؤمن: (لا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها -أي: يمسك بها-، ورجله التي يمشي بها).
فالله عز وجل إذا أحب العبد كان له سمعه الذي يسمع به، يعني: لا يسمع إلا ما يرضي ربه سبحانه، وكان الله عز وجل معيناً لهذا الإنسان في بصره، فهو يراقب الله سبحانه وتعالى، ولا ينظر إلا إلى ما أحل الله، ولا ينظر إلى ما حرم الله سبحانه، (ويده التي يبطش بها) كقوله تعالى: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال:17].
فالإنسان يمسك بعدوه والله يعينه ويمكنه منه سبحانه وتعالى، فهذا هو البطش.
يقول تعالى: {وَإِذَا بَطَشْتُمْ} [الشعراء:130] أي: أخذتم عدوكم، {بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ} [الشعراء:130] أي: أمسكتم إمساكاً فيه الموت، يضرب الضربة يقتل بها غيره، فقوله تعالى: {وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ} [الشعراء:130] أي: سطوتم بعنف على غيركم من الناس فبطشتم بهم وقتلتموهم، فالبطش من معانيه: القتل، فيقتلون غيرهم من غير جريمة، أو على شيء لا يستحق معه أن يقتل، فقالوا: هو القتل على الغضب من غير تثبت، بل بمجرد أن يغيظه يضربه ويقتله، فهذا بطش الجبارين الذين نهانا ربنا سبحانه وتعالى عن مثله، وأمر عباده أن يزينوا أمرهم بالحلم، فلا يكونون متسرعين مندفعين متهورين، ولذلك قال لنبيه صلى الله عليه وسلم: {وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران:159] ولكن الله أعطاه الرقة صلوات الله وسلامه عليه، فلم يكن فظاً ولا غليظاً ولا صخاباً في الأسواق عليه الصلاة والسلام.
وقوله تعالى: {جَبَّارِينَ} [الشعراء:130] الجبار يأتي بمعانٍ، فالله الجبار القوي سبحانه وتعالى، فأخذه شديد، والجبار يأتي من الجبر، والجبر: الإصلاح، فالله يجبر ما يفسد وينكسر من خلقه، فهو يجبر خلقه سبحانه وتعالى، فإذا انكسر إنسان أقامه الله سبحانه ورأف ولطف به سبحانه وتعالى.
وأما هؤلاء فجبارون بمعنى: أنهم قساة عتاة يضربون فيقتلون، فقالوا: الجبار من الناس هو القتّال في غير حق، يعني: يقتل من غير وجه حق، قالوا: وكذلك قوله سبحانه: {إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّارًا فِي الأَرْضِ} [القصص:19]، يقولها لموسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام لما أراد أن يبطش بالذي هو عدو له، فموسى أراد أن يمسك هذا العدو ويضربه فقال: {أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّارًا} [القصص:19] أي: تريد أن تقتل الناس من غير وجه حق.
ومن معانيها أيضاً: الجبار: المتسلط العاتي على غيره، ومنها قول الله عز وجل: {وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ} [ق:45]، فليس جبار صلوات الله وسلامه عليه ولكنه {بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة:128].