وقوله تعالى: وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ اخْتَلَفَ مُفَسِّرُو هذه الآية على أقوال، بعد اتفاقهم على إنكار قول الجهمية الأول القائلين، تعالى عن قولهم علوا كبيرا، بأنه فِي كُلِّ مَكَانٍ، حَيْثُ حَمَلُوا الْآيَةَ عَلَى ذلك، فالأصح من الْأَقْوَالِ: أَنَّهُ الْمَدْعُوُّ اللَّهُ فِي السَّمَوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ، أَيْ يَعْبُدُهُ وَيُوَحِّدُهُ وَيُقِرُّ لَهُ بِالْإِلَهِيَّةِ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ، وَيُسَمُّونَهُ اللَّهَ وَيَدْعُونَهُ رَغَبًا وَرَهَبًا، إِلَّا مَنْ كَفَرَ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ، وَهَذِهِ الْآيَةُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ [الزُّخْرُفِ: 84] أَيْ هُوَ إِلَهُ مَنْ فِي السَّمَاءِ، وَإِلَهُ مَنْ فِي الْأَرْضِ، وَعَلَى هَذَا فَيَكُونُ قَوْلُهُ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ خَبَرًا أَوْ حَالًا [وَالْقَوْلُ الثَّانِي] أَنَّ المراد أنه اللَّهَ الَّذِي يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ، مِنْ سِرٍّ وَجَهْرٍ، فَيَكُونُ قَوْلُهُ يَعْلَمُ، مُتَعَلِّقًا بِقَوْلِهِ فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ تَقْدِيرُهُ، وَهُوَ اللَّهُ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ، فِي السَّمَوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ، وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ، [وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ] أَنَّ قَوْلَهُ وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ وَقْفٌ تَامٌّ، ثُمَّ اسْتَأْنَفَ الْخَبَرَ، فَقَالَ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَهَذَا اخْتِيَارُ ابْنِ جَرِيرٍ، وَقَوْلُهُ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ أي جميع أعمالكم خيرها وشرها.

[سورة الأنعام (6) : الآيات 4 الى 6]

وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ (4) فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْباءُ مَا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (5) أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّماءَ عَلَيْهِمْ مِدْراراً وَجَعَلْنَا الْأَنْهارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ (6)

يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنِ الْمُشْرِكِينَ الْمُكَذِّبِينَ الْمُعَانِدِينَ، إِنَّهُمْ مَهْمَا أَتَتْهُمْ مِنْ آيَةٍ أَيْ دَلَالَةٍ وَمُعْجِزَةٍ وَحُجَّةٍ مِنَ الدَّلَالَاتِ، على وحدانية الله وَصِدْقِ رُسُلِهِ الْكِرَامِ، فَإِنَّهُمْ يُعْرِضُونَ عَنْهَا، فَلَا ينظرون إليها وَلَا يُبَالُونَ بِهَا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْباءُ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ وَهَذَا تَهْدِيدٌ لَهُمْ، وَوَعِيدٌ شَدِيدٌ عَلَى تَكْذِيبِهِمْ بِالْحَقِّ، بِأَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَأْتِيَهُمْ خَبَرُ مَا هُمْ فِيهِ مِنَ التَّكْذِيبِ، وَلَيَجِدُنَّ غِبَّهُ وليذوقن وباله.

ثم قال تعالى واعظا لهم وَمُحَذِّرًا لَهُمْ، أَنْ يُصِيبَهُمْ مِنَ الْعَذَابِ وَالنَّكَالِ الدُّنْيَوِيِّ مَا حَلَّ بِأَشْبَاهِهِمْ وَنُظَرَائِهِمْ، مِنَ الْقُرُونِ السَّالِفَةِ الَّذِينَ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً، وَأَكْثَرَ جَمْعًا وَأَكْثَرَ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَاسْتِغْلَالًا لِلْأَرْضِ، وَعِمَارَةً لَهَا، فَقَالَ أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ أَيْ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ والأعمار، والجاه العريض والسعة والجنود، ولهذا قال وَأَرْسَلْنَا السَّماءَ عَلَيْهِمْ مِدْراراً أَيْ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ وَجَعَلْنَا الْأَنْهارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ أَيْ أَكْثَرْنَا عَلَيْهِمْ أَمْطَارَ السَّمَاءِ وَيَنَابِيعَ الْأَرْضِ، أَيِ اسْتِدْرَاجًا وَإِمْلَاءً لَهُمْ فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ أَيْ بِخَطَايَاهُمْ، وسيئاتهم التي اجترحوها وَأَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً

طور بواسطة نورين ميديا © 2015