بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (1) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ (2) وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ (3)
يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى مَادِحًا نَفْسَهُ الْكَرِيمَةَ وَحَامِدًا لَهَا عَلَى خَلْقِهِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ قَرَارًا لِعِبَادِهِ.
وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ مَنْفَعَةً لِعِبَادِهِ فِي لَيْلِهِمْ وَنَهَارِهِمْ، فَجَمَعَ لَفْظَ الظُّلُمَاتِ، وَوَحَّدَ لَفْظَ النُّورَ، لِكَوْنِهِ أَشْرَفَ، كقوله تعالى: عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمائِلِ [النَّحْلِ: 48] وَكَمَا قَالَ فِي آخِرِ هَذِهِ السُّورَةِ وَأَنَّ هَذَا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ [الأنعام: 153] ثم قال تعالى: ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ أَيْ وَمَعَ هَذَا كُلِّهِ كَفَرَ بِهِ بَعْضُ عِبَادِهِ، وَجَعَلُوا له شَرِيكًا وَعِدْلًا، وَاتَّخَذُوا لَهُ صَاحِبَةً وَوَلَدًا، تَعَالَى الله عز وجل عن ذلك علوا كبيرا.
وقوله تعالى: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ يَعْنِي أَبَاهُمْ آدَمَ، الَّذِي هُوَ أَصْلُهُمْ، وَمِنْهُ خَرَجُوا فَانْتَشَرُوا فِي الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ! وَقَوْلُهُ ثُمَّ قَضى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ثُمَّ قَضى أَجَلًا يَعْنِي الْمَوْتَ وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ يَعْنِي الْآخِرَةَ، وَهَكَذَا رُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ وَعِكْرِمَةَ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَالْحَسَنِ وَقَتَادَةَ وَالضَّحَّاكِ، وَزَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ وَعَطِيَّةَ والسُّدِّيِّ، وَمُقَاتِلِ بْنِ حَيَّانَ وَغَيْرِهِمْ، وَقَوْلُ الْحَسَنِ في رواية عنه ثُمَّ قَضى أَجَلًا وهو مَا بَيْنَ أَنْ يُخْلَقَ إِلَى أَنْ يَمُوتَ وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ وهو مَا بَيْنَ أَنْ يَمُوتَ إِلَى أَنْ يُبْعَثَ، هُوَ يَرْجِعُ إِلَى مَا تَقَدَّمَ، وَهُوَ تَقْدِيرُ الْأَجَلِ الْخَاصِّ، وَهُوَ عُمُرُ كُلِّ إِنْسَانٍ وَتَقْدِيرُ الْأَجَلِ الْعَامِّ، وَهُوَ عُمُرُ الدُّنْيَا بِكَمَالِهَا، ثُمَّ انْتِهَائِهَا وَانْقِضَائِهَا وَزَوَالِهَا، وَانْتِقَالِهَا وَالْمَصِيرُ إِلَى الدَّارِ الْآخِرَةِ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ: ثُمَّ قَضى أَجَلًا يَعْنِي مُدَّةَ الدُّنْيَا، وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ يَعْنِي عُمُرَ الْإِنْسَانِ إِلَى حِينِ مَوْتِهِ، وَكَأَنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى بَعْدَ هَذَا وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ [الأنعام: 60] الآية، وَقَالَ عَطِيَّةُ: عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ثُمَّ قَضى أَجَلًا يَعْنِي النَّوْمَ، يَقْبِضُ فِيهِ الرُّوحَ، ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَى صَاحِبِهِ عِنْدَ الْيَقَظَةِ، وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ يَعْنِي أَجَلَ مَوْتِ الْإِنْسَانِ، وَهَذَا قَوْلٌ غَرِيبٌ، وَمَعْنَى قَوْلِهِ عِنْدَهُ أَيْ لَا يَعْلَمُهُ إلا هو، كقوله إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي لَا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلَّا هُوَ [الأعراف: 187] وكقوله يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْراها إِلى رَبِّكَ مُنْتَهاها [النازعات: 42- 44] .
وقوله تعالى: ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ قَالَ السُّدِّيُّ وَغَيْرُهُ: يَعْنِي تشكون في أمر الساعة.