الخلوات، وتغلب عليهم طبائع نفوسهم، في ساعات الرغبة والرهبة والغضب والجوع والحاجة، فينسون كل ما يقولونه. ولست أتكلم عن احد، ولكن أضرب نفسي مثلا، أنا أحاول السمو النفسي حين ألقي المحاضرة وأكتب المقالة الداعية إلى الحق والخير والهدى، فلا أكاد أعلو قليلا حتى يغلب عليّ ثقل طبيعتي وشهوات نفسي الامارة بالسوء، فأعود إلى الأرض. ويرى الناس ذلك من الوعاظ والخطباء فلا يبالون بما يقولون، ولا يكون للوعظ فيهم أثر.
أما الرسول صلى الله عليه وسلم فلم يدع يوما إلى محاضرة جامعة في بيان أحكام الإسلام، ولم يقم مدرسة لها ساعات ودروس، ولم يجلس في حلقة وعظ، بل كان يبلغ ما يوحى اليه في البيت والمسجد والطريق ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، حين تدعوا الحاجة اليه، ولكنه يقول ذلك بلسانه وعمله، ويعبر عنه بقوله وفعله. فقد كان خلقه القرآن، وأنتم تسمعون هذه الكلمة ولا تفكرون في معناها، ومعناها يا سادة: ان كل فعل من أفعاله، وكل خلق من خلائقه، آيات تتلى، ومحاضرة تلقى، وحلقة درس ومجلس وعظ، لأنها كلها تنطق بما يأمر به القرآن.
وكان يقوم الليل حتى تورمت قدماه، ويستغفر الله دائما فقيل له: ألم يغفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال: أفلا أكون عبداً شكوراً؟ وكان في أعماله كلها في صلاة لأن كل سعي للخير ودفع للشر وعمل لمصلحة الجماعة، ان اريد به وجه الله، كان لصاحبه صلاة. وأنا أكتفي بمثال واحد على إيمانه بما يدعو اليه، وتمسكه بتطبيقه تمسكا كاملا يعلو على كل الاعتبارات وامهد لهذا المثال بصورة واقعة.
لو اتهمت فتاة من أشرف الأسر - من أسرة كبيرة أو وزير - بتهمة السرقة، أترونها تسجن كما تسجن (نورية (?))، لو كانت هي السارقة، وينفذ فيها حكم القانون كما ينفذ في تلك النورية، أم تمتد إلى قضيتها مئة اصبع، فتستر