للدولة العثمانية، كل يوم مشكلة في ركن من أركان الدولة، ويضطر "السلطان" أن يضرب بيد من حديد على مثيري الفتن، فيقول الأعداء: انظروا. هذا هو الجلاد، هذا هو الدكتاتور، هذا هو البربري الذي لا يعرف الرحمة يقتلَّ رعاياه، يستثيرونهم ليثوروا ضد الدولة، ضد الإسلام، يريدون أن يقوضوا الإسلام، فإذا فتك بهم، وما كان أمامه إلا أن يفتك بهم، يقولون: "انظروا إلى السفاح".
وذهب "هرتزل" إلى "عبد الحميد" يعرض عليه قروضاً طويلة الأجل ويعرض عليه تنشيط الحياة الاقتصادية في الدولة العثمانية، ويعرض عليه التدخل لدى الدولتين المناوئتين "روسيا" و "بريطانيا" لكي تكفا عن إثارة الأقليات، ماذا يطمع حاكم أكثر من ذلك: يستقر حكمه، يغني شعبه، يأمن من الفتن والاضطرابات، ماذا يريد أكثر من ذلك، وكان لهم في مقابل ذلك كله طلب صغير، هو إعطاء اليهود قطعة من الأرض في فلسطين ليقيموا عليها وطناً قومياً لهم، ورفض السلطان المسلم بما أوحى إليه إسلامه، وقال "لهرتزل": "إن هذه ليست بلادي ولكنها بلاد المسلمين وقد روتها دماؤهم، ولا أملك أن أتنازل عن شبر واحد منها".
وكان أن عُزِل.. وكانت نهايته، كما تعلمون منفياً في الأرض، ولكن له الأجر عند الله، لأنه وقف تلك الوقفة البصيرة.. المستبصرة بنور الله، التي عرف فيها أن هؤلاء الخادعين يريدون هذه القطعة القليلة من الأرض لتكون غداً دولة ولتتوسع هذه الدولة ولتنخر في عظام العالم الإسلامي، وهذا الذي كان.
نريد أن نتتبع بشيء قليل من التفصيل تلك السنوات التي مرت ما بين هذا العرض الإجرامي الذي رفضه "عبد الحميد"، وبين قيام الدولة اليهودية، التي لقد ائتمر المؤتمرون أو المتآمرون.. هرتزل ورفقائه، في مؤتمر أقيم في سويسرا عام 1897 للميلاد.. وقرروا في ذلك المؤتمر ضرورة إقامة الدولة في خلال خمسين عاماً. وإذا حسبته التاريخ تجد الدولة قد قامت بالفعل من خلال خمسين عاماً 1897-1947.. خمسون عاما بالضبط، فماذا فعل اليهود ونصارهم وحلفاؤهم من الصليبيين لكي يقيموا تلك الدولة.
لقد بدأوا بإزالة الخلافة الإسلامية.. لأن الخلافة كانت هي السد المنيع الذي يقف أمام أطماعهم، حتى "الرجل المريض" كانت أوربا تخشاه!!، ولست أنا الذي أقول ذلك، اقرءوا ذلك إن شئتم في كتاب "الغارة على العالم الإسلامي".
بألسنتهم هم، يقول واحد من المبشرين: "إن أوربا كانت تخشى الرجل المريض وهو مريض.. لأن وراءه ثلاثمائة مليون من المسلمين مستعدون للجهاد بإشارة من يده"، لذلك كانوا يخشونه وهو مريض، ولذلك كانوا يعملون بغية الإجهاز عليه، وبالفعل جاءوا بدعِيِّهم "مصطفى" وما هو بمصطفى،