حين يستوعبها القلب، حين تتعمق في النفس، حين تصبح هي منهج الحياة إنها تكتب الواقع على ذلك النحو الفريد الذي كتبه أولئك الصحب الكرام رضي الله عنهم وأرضاهم.
ثم إن أجيالا مضت ومسلمون يستمسكون بأركان الإسلام ولكن يدهم تتخلخل من القبضة المتينة رويداً رويداً فيصيبهم من جراء هذا التخلخل ما ذكره الله لهم في سننه التي لا تتغير ولا تتبدل، يجيء الأعداء يهاجمون دار الإسلام، جاء الصليبيون، وجاء التتار، وغزوا أرض الإسلام، ما غزوها اعتباطاً كل شيء بقدر، وكل شيء يسير حسب السنن الربانية، كان المسلمون قد غفلوا، قد ركنوا إلى الأرض، إلى الشهوات، إلى متاع الدنيا القليل، شغلتهم أموالهم وأنفسهم، شغلهم متاع لا يساوي أن يشغلوا به عن الدار الآخرة وعن الجهاد في سبيل الله، فجاء الغزاة: إنه عقاب سريع من الله سبحانه وتعالى، جاء الصليبيون وجاء التتار، وأغاروا.. وعاثوا فساداً في الأرض الإسلامية.. ولكن الله الغالب على أمره {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} (يوسف/21) ، إن الله الغالب على أمره كان قد قدر قدراً أن يستيقظ المسلمون مرة أخرى، أن يعودوا إلى الله بقيادة علمائهم وزعمائهم وقادتهم العسكريين.
أرسل الله من العلماء من يذكِّرُ هذه الأمة بقضية عقيدتها، من ينقي لها تلك العقيدة مما شابها من أخلاط ليست منها، وكان في مقدمة أولئك شيخ الإسلام ابن تيمية رضي الله عنه، وبعث الله قادة من قادة المسلمين يذكرونهم، كما فعل "صلاح الدين" بأنهم غلبوا على أمرهم لأنهم نسوا الله، وشردوا عن دينه الصحيح، فيجب عليهم أن يعودوا إلى الدين، يجب عليهم أن يعودوا إلى النهج الصحيح، لينصرهم الله واستجابت الأمة، سواء وراء "صلاح الدين" في حربه للصليبين، أو رواء "قطز" في حربه للتتار، وصيحة "قطز" الشهيرة.. "وا إسلاماه" حين دخل المعركة الفاصلة بينه وبين التتار، بهذه الصيحة العظيمة "وا إسلاماه" وتغير مجرى التاريخ، لقد كان التتار قد خرجوا من ديارهم في رحلة مخربة مدمرة لم يتوقفوا فيها أبداً خلال ألوف من الأميال حتى دخلوا عاصمة الخلافة "بغداد" وعاثوا فيها فساداً بأبشع ما يعيث جيش غازٍ، جيش بربري، جيش لا يعرف للرحمة سبيلاً ولا معنى من معاني الإنسانية: يُقتِّل.. يُذبِّح.. لقد ألقوا بكتب المكتبة الكبرى في بغداد، ألقوا بها في النهر لتعبر عليها خيولهم، وحولوا مجرى النهر دماً أحمر أربعين يوماً وليلةً من المذابح التي أوقعوها بالمسلمين، ووصل الذل بالمسلمين يومئذ إلى حد أن التتري في بغداد كان يمر بالمسلم، والتتري ليس معه سلاح فيقول للمسلم: قف مكانك حتى أذهب إلى بيتي فآتي بالسيف فأقتلك، فيقف المسلم مكانه حتى يأتي التتري بالسيف ويقتله.