معنى "لا إله إلا الله" إذن إذا لم يكن أول مقتضاها أن يتحاكموا على شريعة الله، ماذا بقي منها في واقع الحياة، بقي الصوت والصدى، وما كان المقصود بها أن تكون أصواتا تخرج من أفواه الناس، إنما كان المقصود بها أن تكون واقعا يعايش، كان المقصود بها أن تلغي الجاهلية التي تعبد أرباباً متفرقةً، وتحدث بدلاً من الجاهلية واقعاً جديداً فيه إله واحد يُعبد، لا آلهة متعددة، إله يُعبد في المسجد، وهو ذاته سبحانه يُعبد في كل مكان. أما أن يُعبد الله في المسجد، ويُعبد إله آخر في واقع الحياة، فإن الله سبحانه وتعالى يقول: {وَقَالَ اللَّهُ لا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ} (النحل/51) .

فأما الجيل الأول الذي كتب بدمه.. بمشاعره.. بفكره.. لكل لحظة من حياته أمجاد التاريخ الإسلامي ووضع البذرة التي نمت خلال القرون، فقد كان يستوعب "لا إله إلا الله". كان يعرف مقتضياتها كلها، كان يعيش كل لحظة من حياته بـ "لا إله إلا الله"، فيتحاكم إلى شريعة الله، ويتخذ منهج الله منهجاً له في الحياة، يأتمر بما أمره الله، وينتهي عما نهاه الله، ولا نقول إنهم كانوا ملائكة، كلا، لقد كانوا بشراً، وكان يجري عليهم ما يجري على البشر من خطأ وخطيئة، ولكنهم: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} (آل عمران/135-136) .

نعم: لقد كانوا يخطئون كما يخطأ البشر، وتقع منهم الخطايا كما تقع من البشر، ولكنهم سرعان ما يفيئون إلى الله، يعرفون أنهم مخطئون، فيقومون من وهدتهم ويتجهون إلى الله من جديد، فيتقبل الله توبتهم ويعطيهم العزم والقوة على أن يسيروا في طريقه.

كان ذلك الجيل يعرف حق المعرفة، ويقدر حق القدر ما "لا إله إلا الله" لم تكن في حسه كلمة عابرة، ولا قضية خفيفة الوزن، وإنما كانت حياته كلها هي "لا إله إلا الله.. محمد رسول الله"، وبذلك كان خير جيل عرفته البشرية وبذلك فعل تلك المعجزات العجيبة التي لا يصدقها البشر لولا أنها واقع حدث بالفعل. كيف تأتىَّ لهذه الحفنة القليلة من البشر أن تنشر دين الله بهاذ اليسر، بهذه السرعة، بهذا التمكن من خلال نصف قرن كان الإسلام قد امتد من المحيط إلى ما وراء الهند، حركة لا مثيل لها في التاريخ كله من قبل ولا من بعد، هل تحدث جزافاً؟ كلا، إنما تحدث بمقوماتها، وأول مقوماتها: "لا إله إلا الله، محمد رسول الله".

طور بواسطة نورين ميديا © 2015