لِتَحقيقِ الأَخْذِ بِالمَصالِحِ المُرسَلَةِ شُروطاً ثَلاثَةً نَصَّ عليها الغَزَالِيُّ في (المُسْتَصْفَى) ونَقَلَها عنه مَن جاءَ بَعدَه واعْتَبرُوها مَذهَباً لَه، وهي.

الأَوَّلُ: أنْ تَكونَ المَصلَحةُ ضَرُورِيَّةً، أي: ليسَتْ حاجِيَّةً ولا تَحْسِينيَّةً، بِمَعْنى أنَّها تَحْفَظُ ضَرورَةً مِن الضَرُورَاتِ الخَمْسِ، أمَّا المَصلحَةُ الحاجِيَّةُ والتَّحْسِينِيَّةُ فَلا يَجوزُ الحُكمُ بِمُجَرَّدِها ما لَمْ تَقْصدْ بِشَهادَةِ الأُصولِ؛ لأِنَّه يَجرِي مَجْرَى وَضْعِ الشَّرعِ بِالرَّاي ـ وذلكَ لا يَجوزُ ـ وإذا أُيِّدَتْ بِأَصْلٍ فهي قِياسٌ، وقدْ ذَهَبَ الغَزَاِليُّ في (شِفَاءِ الغَلِيلِ) إلى أنَّ المَصلحَةَ تَكونُ: ضَرورِيَّةً أو حاجِيَّةً، وهي -أي: المصلحة الضرورية ـ تَكونُ مِن بابِ ما لا يَتِمُّ الواجِبُ إلاَّ بِه فَهو واجِبٌ.

الثَّاني: أنْ تَكونَ المَصلحَةُ كُلِّيَّةً لا جُزْئِيَّةً؛ بِمَعْنَى أنَّها عامَّةٌ تُوجِبُ نَفْعاً لِلْمُسلِمينَ ولَيسَتْ خاصَّةً بِالبَعْضِ، وذلكَ بأنْ يرْجِعَ النَّفعُ، أو دَفْعُ الضَّررِ المُترَتِّبِ على تشْريعِ الحُكمِ لِجميعِ الأُمَّةِ أو لأِكْثرِ أفْرادِها، فإِذا ظَهَرَ في تَشْريعِ الحُكمِ مَصلحَةُ البَعْضِ، كأميرٍ أو مَلِكٍ فَلا يَجوزُ بِناءُ الحُكمِ عليها، لأِنَّها مَصلحةٌ خاصَّةٌ ولَيستْ عامَّةً.

الثَّالِثُ: أنْ تَكونَ المَصلحَةُ قَطْعيَّةً لا ظَنِّيَّةً، بِأنْ تَثْبُتَ بِطريقٍ قَطْعِيٍّ لا شُبْهَةَ فيه. وتَتَحَقَّقُ الشُّروطُ الثَّلاثَةُ فيما إذا تَتَرَّسَ الكُفارُ حالَ التِحامِ الحَرْبِ بِأُسارَى المُسلِمينَ ـ بِأنْ يَجعَلوا أَسْرَى المُسْلِمينَ أَمَامَهم كالتُّرْسِ يَتَلَقَّى عنْهم الضَّرْبَ والطَّعْنَ ـ فَيَكونَ مانِعاً لِلْمُسلِمينَ مِن تَوجِيهِ الضَّربِ والرَّمْي إلَيهِمْ، وبِذلكَ يَتَمكَّنُ الكُفَّارُ مِن مُهاجَمَةِ الحُصونِ فَلَو امْتَنَعْنا عَن القَتْلِ لَصَدَمُونا واسْتَولَوا على دِيارِنا وقَتَلوا كافَّةَ المُسْلِمِينَ ثُمَّ يَقتُلُونَ الأَسْرَى أيضاً، ولَو رَمَينا التُّرْسَ لَقَتَلْنا مُسْلِماً مَعْصوماً لَمْ يُقَدِّمْ ذَنْباً يَسْتَحِقُ عليه المَوتَ فَيجوزُ والحَالُ هذه رَمْيُ التُّرْسِ لأِنَّ هذا الأَسيرَ مَقْتولٌ بِكُلِّ حالٍ، لأِنَّا لَوْ كَفَفْنا عنْ قَتْلِه لَتَسَلَّطَ الكُفَّارُ علَى جَميعِ المُسْلِمينَ فَيَقْتُلونَهم ثُمَّ يَقْتُلونَ الأُسارَى أيضاً، فَحِفْظُ جَميعِ المُسْلِمِينَ أقْربُ إلى مَقْصودِ الشَّرعِ، لأِنَّ مَقْصودَه تَقْليلُ القَّتْلِ وحَسْمُ َسَبيلِه عِندَ الإِمْكانِ فإنْ لَمْ نَقْدْرِ على الحَسْمِ فَقَدْ قَدَرْنا على التَّقْليلِ، فهذه مَصلَحَةٌ عُلِمَ بِالضَّرُورَةِ، كَونُها مَقْصودَةً لِلشَّارِعِ، وثَبَتَتْ لا بِدَليلٍ واحِدٍ بَلْ بِأَدِلَّةٍ خارِجَةٍ عَن الحَصْرِ، ولَكِنَّ تَحْصيلَ هذا المَقْصودِ بِهذا الطَّريقِ وهو قَتْلُ مَن لَمْ يُذْنِبْ لَمْ

طور بواسطة نورين ميديا © 2015