ثم قال: ولعمري إن أصل الانزعاج لا ينكر، إذ الطبع مجبول على الأمن من حلول المنايا، وإنما ينكر الإفراط فيه والتكليف كمن يخرق ثيابه ويلطم وجهه ويعترض على القدر، فإن هذا لا يرد فائتاً، لكنه يدل على خور الجازع، ويوجب العقوبة والسلام.
وليعلم أهل المصائب أنه لولا محن الدنيا ومصائبها، لأصاب العبد من أدواء الكبر والعجب والفرعنة وقسوة القلب ما هو سبب هلاكه عاجلاً وآجلاً، فمن رحمة أرحم الراحمين، أن يتفقده في الأحيان، بأنواع من أدوية المصائب، تكون حمية له من هذه الأدواء، وحفظاً لصحة عبوديته، واستفراغاً للمواد الفاسدة الرديئة المهلكة، فسبحان من يرحم ببلائه، ويبتلي بنعمائه.
كما قيل:
قد ينعم الله بالبلوى، وإن عظمت ...
... ويبتلي الله بعض القوم بالنعم فلولا أنه سبحانه وتعالى يداوي عباده بأدوية المحن والابتلاء، لطغوا وبغوا وعتوا وتجبروا في الأرض، وعاثوا فيها بالفساد، فإن من شيم النفوس إذا حصل لها أمر ونهي، وصحة وفراغ، وكلمة نافذة من غير زاجر شرعي يزجرها، تمردت وسعت في الأرض فساداً مع علمهم بما فعل بمن قبلهم، فكيف لو حصل لهم مع ذلك إهمال؟ ! ولكن الله سبحانه وتعالى، إذا أراد بعبده خيراً، سقاه دواءً من الابتلاء والامتحان على قدر حاله، ويستفرغ منه الأدواء المهلكة، حتى إذا هذبه ونقاه وصفاه، أهله لأشرف مراتب الدنيا وهي عبوديته، ورقاه أرفع ثواب الآخرة وهي رؤيته.
قد يحصل للعابد الجاهل، مصيبة، من الجزع ما يسوء الناظر إليه، والسامع عنه، من الاعتراض على الأقدار، وما ذاك إلا لإدلاله بعبادته، فإنه قد شوهد أن خلقاً كثيراً من أهل الدين والخير، عند موت أحبابهم، جرى منهم أمور ينكرها العقال من الناس، فمنهم من خرق ثيابه، ومنهم من لطم خده، ومنهم من