والحق الذي يظهر لكلِّ متأمل: أنَّ قوله صلى الله عليه وسلم:"ارحموا من في الأرض"أي على الأرض، فـ"في"هنا بمعنى"على". وقوله:"يرحمكم من في السماء"أي من على السماء. فإذا قابلت بين أول الحديث وآخره اتضح لك المعنى 1.
وروى أبو سعيد الخدري"رضي الله عنه"أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: " ألا تأمنوني وأنا أمين من في السماء، يأتيني خبر من في السماء صباحاً ومساءً " لا يزال المصنف ـ رحمه الله ـ يذكر الأحاديث المشتملة على التصريح بأنَّ الله في السماء، وهذا كما تقدم أحد أنواع الأدلة الدالة على علو الله تبارك وتعالى على خلقه.
" من في السماء"أي: الله جل وعلا، فقد ائتمنه على أعظم الأمور وأجلها على الإطلاق: ائتمنه على وحيه وتنزيله، فبلَّغ صلى الله عليه وسلم رسالة ربه وافية كاملة. وهو صلى الله عليه وسلم السفير والواسطة بين الله وبين عباده في بلاغ دينه وكلامه لهم، فائتمنه من في السماء، ومع ذلك لم يأتمنه بعض من في الأرض على قليل من المال، فلهذا قال صلى الله عليه وسلم:"ألا تأمنوني وأنا أمين من في السماء".
وللحديث قصة، وهي أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قسم مالاً، فجاءه ذو الخويصرة فقال: إنك لم تقسم بالعدل أو بالسوية، فغضب صلى الله عليه وسلم وقال كلمته هذه. ثم بيَّن ما هو الذي ائتمنه عليه من في السماء أي: الله عز وجل، فقال: يأتيني خبر من في السماء صباحاً ومساءاً" أي يتنزل عليه الوحي"باستمرار في الصباح والمساء"، فهو مؤتمن على أعظم الأمور: وحي الله وتنزيله، فكيف لا يؤتمن على المال، وهو أمر دنيوي ليس بشيء في مقابل هذا الأمر الجلل العظيم.