وليس في الحديث -الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن عمرو بن العاص: «اقرأ القرآن في أربعين» - ما يدل على كراهة الختم في أكثر من أربعين، والعبارة ليست حاصرة حتى يكون ما عداها ليس من سنته، وغاية ما يدل عليه أن ذلك كان حالة من حالاته، أو أنه كان الغالب منها (?).
وليس معنى هذا هو التراخي في قراءة القرآن وختمه، بل العكس هو المطلوب.
فالقرآن دواء متكامل يبدأ من سورة الفاتحة وينتهي عند سورة الناس، وكلما تناول المرء هذا الدواء بكثرة وبطريقة صحيحة تسارع شفاؤه وبرؤه.
فالمطلوب إذن: هو الانشغال بالقرآن، والإكثار من تلاوته، ولكن دون وجود مدة الختم كسيف مسلط على الرقاب، ليتسنى للقارئ التدبر والتأثر، والاغتراف من منابع القرآن الإيمانية، وتناول دوائه بصورة صحيحة.
ومما أبعد البعض عن الانتفاع الحقيقي بالقرآن ظنه أنه يتأثر بالسماع أكثر من تأثره بالقراءة، ومن ثمَّ فإنه يهمل القراءة، فهو -كما يقول- يجد قلبه عند سماع فلان وفلان من المقرئين .. ولو كان التأثر بالمعنى هو المُسبب لذلك عند السماع، لحسُن هذا الأمر، وكيف لا، والتأثر بالمعنى مع الصوت الحسن ينبت الإيمان في القلب يقول ابن تيمية:
كان عمر بن الخطاب يقول لأبي موسى الأشعري: يا أبا موسى ذكرنا ربنا، فيقرأ وهم يسمعون ويبكون. وكان أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم إذا اجتمعوا أمروا واحدًا منهم أن يقرأ القرآن والباقي يستمعون.
ويقول: ولهذا السماع من المواجيد العظيمة، والأذواق الكريمة، ومزيد المعارف والأحوال الجسيمة ما لا يسعه الخطاب، ولا يحويه كتاب، كما أن في تدبر القرآن وتفهمه من مزيد العلم والإيمان ما لا يحيط به بيان (?).
ولقد أعطى لنا القرآن نموذجًا للسماع الصحيح الناتج عن تدبر المعنى {وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ} [المائدة: 83] فبكاؤهم - كما يقول الطرطوشي - إنما كان لما فهموه من معانيه (?).
أما إذا كان التأثر ناتجًا عن صوت القارئ وتطريبه بالقرآن دون المعنى فهنا تكمن المشكلة.
لأن التطريب وإن كان يستثير المشاعر إلا أنه قد يستثيرها في أمور كامنة لديها لا تخدم الإيمان، فالإيمان ينشأ عند استثارة المشاعر مع فهم ما دلت عليه القراءة.
يقول بكر أبو زيد:
إنما التعبد أن يتحرك (قلب) العبد إلى كلام الله وما فيه من العظة والعبرة، والتذكير بالمصير وبالجنة والنار، وعظيم الحكم والأحكام.
أما لو تحرك عند قراءة القرآن طربا لمجرد حسن الصوت، دون ما يحمله من آيات القرآن الكريم، فهذا ليس من التعبد (?).
فالقلب قد يكون فيه محبة لله ومحبة لغيره، وخشية له وخشية لغيره، فإذا ما سمع المرء القرآن وهو يُقرأ بالتطريب والصوت الحسن، فإنه قد يجد تأثرًا بما يسمعه، ويظن أن هذا كله من دواعي محبة الله وخشيته، بل هي مشاعر ممتزجة (وليس كل ما حرك الكامن في النفوس، يكون مباحًا في حكم الله ورسوله) (?).
فإن قلت: ألم يرد في السُّنة استحباب سماع القرآن من أصحاب الأصوات الحسنة؟!
نعم، ورد ذلك ليكون أدعى لتفهم القرآن والتأثر بمعانيه.
يقول ابن كثير: المطلوب شرعًا إنما هو التحسين بالصوت الباعث على تدبر القرآن وفهمه، والخشوع والخضوع والانقياد للطاعة.