ولو تأملنا حديث القرآن عن القرآن فسنجد أن من أهم صفات هذا الكتاب أنه: شفاء لما في الصدور .. والشفاء إنما يكون للمريض وليس للصحيح، أي أن القرآن هو الدواء الذي يطهر قلوبنا، وأن الذي يظن بعدم صلاحيته للتعامل مع القرآن بسبب مرض قلبه هو أولى الناس بالقرآن ..
يقول ربنا: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ} [يونس: 57].
ثم إننا نجد في السيرة أن صناديد الكفر .. العتاة والمتكبرين أمثال أبي جهل، والوليد بن المغيرة، وعتبة بن ربيعة قد تأثروا بالقرآن، وخافوا أن يبلغ تأثيره الناس فيؤمنوا به، ويضيع ملكهم وسيادتهم، لذلك قالوا: {لاَ تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} [فصلت: 26].
ولسنا هنا نقلل من شأن تأثير المعاصي وأمراض القلوب على فهم القرآن والتأثر به، فلا شك أن القلب كلما طهر، كان تأثره أسرع، وفي نفس الوقت فإن القلب المريض إذا ما أقبل على القرآن يريد منه الشفاء، فإن استمرار تعرضه له كفيل - بإذن الله- بأن يحدث له التأثر الذي يبدأ في الغالب لحظيًا ويسيرًا، ثم يزداد شيئًا فشيئًا بمداومة القراءة بتفهم وترتيل وتباك.
ويكفيك في تأكيد هذا المعنى قوله تعالى: {اعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يُحْيِي الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآَيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [الحديد: 17].
يقول الحافظ ابن كثير في تفسيره لهذه الآية: فيه إشارة إلى أن الله تعالى يلين القلوب بعد قسوتها، ويهدي الحيارى بعد ضلتها، ويفرج الكروب بعد شدتها، فكما يحيى الأرض الميتة المجدبة الهامدة بالغيث الهتان الوابل، كذلك يهدي القلوب القاسية ببراهين القرآن والدلائل ويولج إليها النور بعد أن كانت مقفلة لا يصل إليها الواصل (?).
ومع هذا كله يبقى مرض الكبر هو العائق الأكبر أمام الانتفاع بالقرآن لأن المتكبر في الغالب لا يستشعر حاجته إليه، ومن ثم فلن يُقبل عليه طالبًا الشفاء.
ومن المداخل المبُعدة للبعض عن القرآن تصورهم بأنه يمكنهم الجمع بين القراءة السريعة للقرآن بلا تدبر ولا تأثر بغية تحصيل الأجر والثواب، وبين قراءة القرآن بتدبر وتأثر، وذلك من خلال تخصيص ختمة للقراءة السريعة، وختمة للتدبر، ولا بأس من المكث مع ختمة التدبر وقتًا طويلاً، ولو استمرت سنوات وسنوات.
هذا المدخل من أخطر المداخل لأنه يؤدي إلى استمرارية المرء في التعامل مع القرآن بصورة شكلية دون الانتفاع الحقيقي به، مع عدم شعوره بتأنيب الضمير تجاه هذه القراءة السريعة؛ لأنه يعلم أن ختمة التدبر سترفع عنه حرج القراءة بلا فهم.
ومن المتوقع لمن يقتنع بهذا أن تكون القراءة السريعة هي الغالبة على قراءته لأنها لا تكلفه وقتًا كبيرًا، ولا جهدًا خاصًا، ولأنها كذلك تُشعره بالرضا عن نفسه، وتحقيق ذاته كلما انتهى من قراءة سورة أو جزء ...
أما ختمة التدبر فهي تحتاج إلى قراءة هادئة، مترسلة، مع إعمال العقل لفهم المراد من الخطاب -ولو فهمًا إجماليًا- فهذا بلا شك لا يريح النفس، وربما حاولت التهرب منه، والتسويف في القيام به باعتبار أن هناك بابًا آخر للقراءة السريعة المريحة مفتوحًا أمامها.
ولأن خير الهدي هو هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وخير النماذج التطبيقية هو نموذج الصحابة رضوان الله عليهم، فاعلم -أخي- أنه لم يَرِد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا عن صحابته الكرام أنهم كانوا يخصصون ختمة للتدبر، وختمة للقراءة السريعة، بل كانت قراءة واحدة تبحث عن الفهم والتأثر.