وروى الإمام مالك في الموطأ أن عبد الله بن عمر مكث على سورة البقرة ثماني سنين يتعلمها (?).
ومما أبعد طائفة كبيرة من الحفاظ عن تدبر القرآن والانتفاع الحقيقي به، هو حرصهم على عدم نسيان المحفوظ فقط، لذلك تراهم يقرأون الآيات قراءة سريعة بقصد المراجعة وكل همهم هو عدم النسيان أو الخطأ.
لذلك لو سألت الكثير من الحفاظ: كيف تقرأ القرآن؟ سيكون جوابه المتوقع: «أقرؤه بطريقة تحافظ على حفظي له»، وكأن الحفظ هو الغاية، مع أن الحفظ وسيلة مهمة لتيسير الانتفاع به واستدعائه في أي وقت.
إن المراجعة التي يراجعها الحافظ ما هي إلا آيات القرآن التي أُمِر بتدبرها، والعمل بما فيها، ولقد مر علينا أن عبد الله بن عباس كان يُقرئ عبد الرحمن بن عوف في خلافة عمر بن الخطاب، قال: فلم أرَ أحدًا يجد من القشعريرة ما يجد عبد الرحمن عند القراءة.
وللشيخ محمد الغزالي - رحمه الله - تعليق على هذه المسألة من خلال تجربة شخصية مر بها فيقول: حفظت القرآن وعمري عشر سنين .. وبداهةً ما كنت أعى منه شيئًا .. والغريب أن هذه الطريقة في الحفظ لألفاظ القرآن صرفتني عن معانٍ كثيرة كنت أمر بها ولا أعرفها .. وأنا كبير، أقرأ، ولكن لأني حفظت الكلام دون فهم للمعنى أجد نفسي - في كثير من الأحيان - أمضي دون فهم للمعنى، لأن الحفظ كان يغلب على التدبر أو إحسان الوعي .. وما بدأت أفكر حتى أكرهت نفسي على أن أعود فأدقق النظر في كل ما أقرأ، وأحمل نفسي على ترك هذه العادة التي ورثناها مع الحفظ (?).
من أكبر معينات عدم نسيان القرآن: تدبره، والوقوف عند معانيه، مع الأخذ في الاعتبار قول من قال من العلماء بأن مفهوم النسيان هو ترك العمل به.
فالإمام أبو شامة حمل الأحاديث الواردة في ذم نسيان القرآن على ترك العمل، لأن النسيان هو الترك لقوله تعالى: +وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِيَ" [طه: 115].
قال: وللقرآن يوم القيامة حالتان:
أحدهما: الشفاعة لمن قرأه ولم ينس العمل به.
والثانية: الشكاية على من نسية أي تركه تهاونا ولم يعمل به.
قال: ولا يبعد أن يكون من تهاون به حتى نسى تلاوته كذلك (?) ..
وأورد القرطبي في التذكار عن سفيان الثوري قوله:
وليس من اشتهر بحفظ شيء من القرآن وتفلت منه بناسٍ، إذا كان يحل حلاله ويحرم حرامه.
قال القرطبي: وهذا تأويل حسن جدًا وفيه توجيه (?).
فإذا ما تعلم المرء ما تدل عليه الآيات التي يحفظها من علم وعمل ثم ترك التنفيذ فإن هذا يدخل في مفهوم النسيان، بل قد يكون أهم صوره، ومما يؤكد ذلك قول أبي الدرداء:
أخاف أن يقال لي يوم القيامة علمت أم جهلت؟ فأقول: علمت. فلا تبقى آية في كتاب الله آمره أو زاجرة إلا وتسألني فريضتها. تسألني الآمرة هل ائتمرت؟ وتسألني الزاجرة هل ازدجرت؟
فأعوذ بالله من علم لا ينفع، ومن دعاء لا يسمع (?).
ومن المداخل الخطيرة على البعض إيهامهم بأنهم لا يصلحون للتعامل مع القرآن وتدبره بسبب ذنوبهم وأمراض قلوبهم، وإيهامهم بأن عليهم التطهر من ذلك أولاً ثم الإقبال على القرآن، ولأن من الصعب على المرء أن يظن بأنه قد وصل لمرحلة التطهر والشفاء من أمراض قلبه، لذلك ستظل هذه الشبهة تشكل حجابًا، وعائقًا يعوقه عن الانتفاع بالقرآن.