وعندما عدد الإمام أبو حامد الغزالي موانع فهم القرآن ذكر منها: أن يكون قد قرأ تفسيرًا ظاهرًا واعتقد أنه لا معنى لكلمات القرآن إلا ما تناوله النقل عن ابن عباس ومجاهد وغيرهما (?).
ويصحح الإمام محمد عبده - رحمه الله - هذا المفهوم فيقول:
خاطب الله بالقرآن من كان في زمن التنزيل، ولم يوجه الخطاب إليهم لخصوصية في أشخاصهم، بل لأنهم من أفراد النوع الإنساني الذي أنزل القرآن لهدايته .. يقول تعالى {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ} فهل يُعقل أنه يرضى منا بأن لا نفهم قوله هذا، ونكتفي بالنظر في قول ناظر نظر فيه لم يأتنا من الله وحي بوجوب اتباعه لا جملة ولا تفصيلا؟
كلا، إنه يجب على كل واحد من الناس أن يفهم آيات الكتاب بقدر طاقته لا فرق بين عالم وجاهل (?).
وليس معنى هذا هو ترك النظر في كتب التفسير، بل المقصد هو اللقاء المباشر مع القرآن وإعمال العقل في فهم الآيات - فهما إجماليا بحسب الطاقة - والرجوع إلى التفاسير لإزالة شبهة أو معرفة معنى التبس علينا فهمه.
ومن المفاهيم التي ينبغي أن تُصحح عند المسلمين قصر وظيفة القرآن على تحصيل الأجر والثواب والتبرك ...
فالمفهوم السائد أنه إن كان لكل حرف يقرؤه المرء من القرآن له به عشر حسنات فليقرأ إذن أكبر قدر ممكن من الحروف ليزداد رصيده من الحسنات، وفي الوقت نفسه فإن تدبر القرآن والوقوف عند معانيه سيعطل مسيرته عن قراءة أكبر قدر ممكن من الآيات، ومن ثمَّ يفوته الكثير من الحسنات ... إذن فلنترك التدبر جانبًا لتحقيق هدف الثواب والأجر!!
بمثل هذا الفهم ابتعد الكثير عن تدبر القرآن وتسابقوا فيما بينهم على ختمه في أقل وقت ممكن خاصة في شهر رمضان.
وبالرغم من أن آيات القرآن وأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم تحث على التدبر والتأثر، وتذم من يقرأ القرآن ولا يجاوز حنجرته، إلا أن حب النفس للراحة والشعور بالرضا بعد كل إنجاز (كَمِّي) ينجزه المرء مع القرآن، جعلها تستريح لمفهوم أن الهدف من قراءة القرآن هو تحصيل الأجر والثواب، وأن هذا الهدف يتحقق بمجرد قراءة الألفاظ دون تفهم ولا تأثر.
فمما لا شك فيه أن الأسهل على الإنسان القراءة السريعة للقرآن، والتي قد يشرد معها العقل في أودية الدنيا، فيشعر المرء بعد القراءة براحة نفسية لمجرد إنجازه كمًا كبيرًا من الأرباع والأجزاء دون مجهود يُذكر، فيصبح هذا الشعور دافعًا له للإكثار من القراءة خاصة في شهر رمضان.
فتحول بذلك مسار التعامل مع القرآن، وبدلاً من أن تكون قراءته وسيلة لفهم المقصود منه، أصبحت غاية يتنافس فيها المتنافسون.
ومن المفاهيم التي كان لها دور كبير في إبعاد البعض عن الانتفاع بالقرآن: قناعتهم بأن أهل القرآن هم حفاظ حروفه، بغض النظر عن ربط ذلك بالعمل بما فيه، والتخلق بأخلاقه، لينكبَّ كل من يحب القرآن ويطمع في الدخول في زمرة أهله على حفظ ألفاظه في أسرع وقت ممكن، فإذا ما تم له ذلك تمكنت من عقله ومشاعره عقيدة بأنه قد أصبح من أهل القرآن، فينتج عن ذلك شعوره بالاكتفاء تجاهه، وتخبو داخله أي رغبة أو شعور بالاحتياج إلى الجوانب الأخرى النافعة في القرآن .. فيكفيه ما فعله، والجهد الذي بذله.
ولقد مر علينا من أحوال الصحابة مع القرآن، وتمهلهم في حفظه، حتى يحملوه لفظًا ومعنى، وإيمانًا، ويترجموه عملاً.
يقول الإمام أبو بكر الطرطوشي: ومما ابتدعه الناس في القرآن الاقتصار على حفظ حروفه دون التفقه فيه.