وبقيت الابنة تتجرع مرارة حياة كريهة، والأب يأكله الندم، والأم تعشش في قلبها الفرحة المكسورة، والرجل كما هو، يتلو القرآن بصوت رخيم جميل، بينما تنزوى هي في ركن قصى لائذة بإذاعة القرآن الكريم يتداخل في سمعها صوت تلاوة زوجها وصوت مذيع يتحدث عن أسس اختيار الزوج، مستشهدًا بحديثه صلى الله عليه وسلم: «إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه، إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد كبير».

تنهمر دموعها وتضم كفيها بأسى، قابضة على الفراغ، متسائلة عن نصف معادلة الاختيار الذي يسكن بيتها، والنصف الآخر الذي فر، ولا تدري إلى أين؟! (?)

* * *

سادسًا: كيد الشيطان

إن إبليس - الذي أقسم بعزة الله بأن يعمل على غواية البشر وسوقهم معه إلى النار - ما كان ليترك هذه الأمة ليلتقي أبناؤها بالقرآن فيتزودوا منه بالإيمان، وبالتالي يتحصنون من كيده، ويلتزمون صراط الله المستقيم، فيدخلون الجنة.

وكيف يتركهم وقد رأى التأثير العظيم الفذ للقرآن على جيل الصحابة، ومن ثَّم فإن استمرار وجود القرآن بين المسلمين من شأنه أن يُفسد مخططاته، ويغلق الأبواب أمامه.

وفي الوقت ذاته فإن الشيطان لا يمكنه تحريف القرآن لأن الله عز وجل قد تكفل بحفظه {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9].

ولا يمكنه كذلك دعوة المسلمين لنبذ كتابهم وإبعاده من بينهم لأنه رسالة نبيهم.

فماذا فعل الشيطان مع القرآن؟!

استطاع الشيطان أن يستدرج المسلمين، ويبعدهم شيئًا فشيئًا عن الانتفاع الحقيقي بالقرآن، وفي الوقت ذاته تركهم يتصلون بالقرآن، ويتعاملون معه ولكن من الناحية الشكلية.

فيجتمع له بذلك أمران:

الأول: أن يصبح القرآن موجودًا بين المسلمين من الناحية الشكلية اللفظية.

الثاني: أن يكون غائبًا من الناحية الحقيقية الجوهرية.

فيخمد باجتماع هذين الأمرين أي تأنيب للضمير في نفوس المسلمين بهجر كتابهم، ومن ثمَّ لا يمكن لأحد أن يفكر بأن القرآن بات غائبًا مهجورًا.

فعندما تنتشر المصاحف في كل مكان، وتبث الإذاعات آياته ليل نهار، وتُخرِّج المدارس والحلقات والكليات عشرات الآلاف من حفاظه. وينكَبُّ المسلمون على قراءته في رمضان، ويتنافسون على ختمه مرات ومرات بُغية تحصيل أكبر قدر من الحسنات ..

عندما يكون هذا وغيره من مظاهر الاهتمام الشكلي بالقرآن هو السائد بيننا، فإن الدعوة إلى العودة الحقيقية إليه، والانتفاع بمعجزته، وقدرته الفذة على إنشاء الإيمان والتغيير لن تجد آذانا مصغية بين المسلمين، بل سيصبح من المتوقع أن يقال لصاحب هذه الدعوة: وماذا عسانا أن نفعل مع القرآن أكثر مما نفعل؟! ألا يكفي هذا الجهد المبذول معه؟!

تلبيس إبليس:

لقد نجح الشيطان نجاحًا كبيرًا في استدراج الأمة وإبعادها عن الانتفاع الحقيقي بالقرآن، وهذا لم يتم في يوم وليلة، بل كان استدراجًا هادئًا بطيئًا عبر القرون المتعاقبة حتى وصل إلى الحال الذي وصل إليه الآن.

وكانت أبوابه الرئيسة التي يدخل منها على المسلمين هي باب الجهل، وباب الهوى، ومن كل منهما تتفرع أبواب كثيرة تناسب كل الحالات، وتؤدي في النهاية إلى تحقيق هدفه.

والجدير بالذكر أن الشيطان ليس له سلطان مباشر على أحد من الناس، ولكن عندما تصادف وسوسته هوى في النفس، أو جهلا بالأمر فمن المتوقع أن تتم الاستجابة لها.

فالجهل بقيمة القرآن الحقيقية، والهدف من نزوله، كان له دور كبير في الاستجابة لوساوس الشيطان في هذا الباب.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015