وفي يوم من الأيام قال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه: «أيعجز أحدكم أن يقرأ ثلث القرآن في ليلة»، فشق ذلك عليهم، وقالوا: أينا يطيق ذلك يا رسول الله؟! فقال: «الله الواحد الصمد ثلث القرآن» (سورة الإخلاص) (?).
فإجابة الصحابة تدل على استصعابهم قراءة ثلث القرآن في ليلة، لأنهم يعلمون حقوق القراءة.
إن جملة الأحاديث الصحيحة التي وردت عن النبي صلى الله عليه وسلم في مسألة الحد الأدنى لختم القرآن تؤكد على أنه صلى الله عليه وسلم لم يُرخِّص لأحد ختمه في أقل من ثلاثة أيام.
فإن قلت بأن عثمان بن عفان رضي الله عنه كان يقرأ القرآن في ركعة. لجاءك الجواب بأن هذا الأثر قد ضعَّفه الترمذي، وأقر الألباني ذلك التضعيف فقال: ولقد أحسن الإمام الترمذي برواية هذا الخبر والذي بعده (خبر عثمان بن عفان، وخبر سعيد بن جبير) بصيغة التضعيف، لأن الركعة مهما طالت لا يمكن أن يقرأ فيها القرآن الكريم كاملا، فضلا عما في ذلك من مخالفته لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في الركوع والسجود والقيام، وحاشا لسيدنا عثمان أن يفعل مثل ذلك (?).
وقال الشيخ عبد القادر الأرناؤوط: أقول: هذا هو الصواب الموافق للسنة (?).
وقد يحُمل خبر عثمان بن عفان رضي الله عنه وأمثاله كما يقول ابن كثير: إما على أنه ما بلغهم في ذلك حديث مما تقدم، أو أنهم كانوا يفقهون ويتفكرون فيما يقرأونه مع هذه السرعة والله سبحانه وتعالى أعلم (?).
فإذا ما نظرنا إلى كتب فضائل القرآن نجد في أغلبها أخبارًا عجيبة عن بعض السلف بأن فلانًا كان يختم في رمضان ستين ختمة، وآخر كان يختم ختمة فيما بين الظهر والعصر، ويختم ختمة أخرى فيما بين المغرب والعشاء، وآخر كان يختم بالنهار أربع ختمات، وبالليل أربع ختمات (?).
وأكثر من هذا وأكثر، ومن لا يصدق هذا الكلام فعليه بالنظر في كتب فضائل القرآن ليتأكد بنفسه. فهل هذا كلام يُعقل؟!
هل يمكن لأحد أن يختم القرآن بين صلاتي المغرب والعشاء؟!
إن متوسط المسافة الزمنية بين انتهاء صلاة المغرب حتى صلاة العشاء تقرب من ساعة من الزمن، أي أنه كان يقرأ كل جزء من القرآن في دقيقتين!!!
هذه الأخبار وغيرها، مهما قيل في صحتها أو عدم صحتها، فهي أولاً: تخالف الهدى النبوي، ثانيًا: تصطدم مع قوله تعالى: {لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ} [ص: 29]: ثالثًا: لا يمكن تصديقها مهما ادعى البعض وجود بركة في الوقت عندهم (?) .. ولعل السبب وراء تناقل هذه الآثار -دون التثبت من صحتها- هو استثارة همم المسلمين في الانكباب على القراءة، والانشغال بها.
وللأسف جاءت هذه الأخبار بنتيجة عكسية، وازداد الحرص على القراءة لمجرد القراءة، وخمدت الدعوة لتفهم القرآن وتدبره والتأثر به، وقد ظهر هذا الحرص بصورة واضحة في شهر رمضان، وجميعنا يعرف ما يحدث في هذا الشهر من تسارع وتنافس بين الناس في عدد الختمات، دون أي التفات إلى تدبر أو تأثر.
* * *