(في المهد وهو ينظر إلى مناغاة أمة وسلوكها معه، ومع من حولها من الكبار والصغار، فكله أذن وعين تصب في (لا وعيه) مفاهيم الحضارة التي احتاجت إلى آلاف السنين، خلال سنتين أو ثلاث.

إنه يبدأ بالتمييز بين الأصوات الغاضبة والأصوات الحانية، وبين الوجوه المقطبة الغاضبة، والوجوه الباسمة المطمئنة الراضية.

من هنا يتعلم الأشياء المقدسة التي نغضب من أجلها إذا انتهكت، والأشياء والمفاهيم المدنسة التي نغضب، ونرفع أصواتنا، ونقطب وجوهنا منها.

لهذا فإن الطفل حين يبدأ في الحبو، والإمساك بالأشياء، واللعب بها، ينظر إلى وجوهنا ليطمئن إلى أن سلوكه يُقابل بعلامات الرضا على وجوهنا، وهكذا يفهم القيم العميقة التي تحكم سلوكنا قبل أن يتكلم، وقبل أن يعرف الكلمات ومعانيها، فتبدو هذه القيم عميقة في شخصيته وكأنها ولدت معه، لأنها تغرس فيه عمليا.

يحدث هذا لدى الطفل في السنوات التي تسبق ذهابه إلى المدرسة، وقبل أن يتعلم الكلام، وهذا ما يحكم سلوكه العميق في حياته القادمة، ويصعب عليه أن يخرج على ما تعلمه وغُرس فيه في سنوات عمره الأولى، لأنه تغلغل في اللاشعور (?).

وماذا عن الصورة الموروثة عن القرآن؟!

فإن كانت أغلب المفاهيم والقيم - سواء كانت صحيحة أم خاطئة - تغرس في يقين الطفل في سنوات عمره الأولى، فماذا يتكون لديه من مفاهيم حول القرآن؟!

هو في البداية لا يعرف القرآن لكنه يرى شيئًا موضوعًا في مكان ما بالمنزل، تمر الأيام والأيام ولا يقترب منه أحد، وإذا ما حدث وأمسك به أحد أبويه فإنه يُقبله، وينظر فيه قليلا ثم يتركه في مكانه.

يجد أمه تقوم بتشغيل المذياع فيخرج منه صوت له نغمة ليست كسائر النغمات التي يسمعها، ثم يجد أمه تترك مكان المذياع الذي ينبعث منه الصوت وتذهب لمكان آخر .. أو تتحدث مع والده، أو في الهاتف، أو تقرأ في مجلة .. كل هذا في وجود الصوت المنبعث من المذياع!!.

يرى والده ووالدته يشاهدان التلفاز باهتمام، فإذا ما جاء الصوت الذي تعود على سماعه مع أمه وبنفس النغمة، يجد أبويه وقد ذهب اهتمامهما فأغلقا الجهاز، أو تركاه يبث الصوت دون أن يستمع إليه أحد.

يسير مع أبويه فيجد أناسًا يجلسون في مكان كبير، ويسمع نفس الصوت، ويجد الناس -في الغالب- يتحدثون فيما بينهم، ولا يعبأون بما يسمعون ..

يركب مع والده السيارة، فيجده قد أدار زرًا فيها، وانبعث نفس الصوت، ثم يجد أباه يتحدث مع أمه في وجود الصوت الذي تعود على سماعه دون أن يهتم به أحد ..

فماذا تظن أن يرسخ في يقين هذا الطفل - الذي ما هو إلا أنا وأنت - عن القرآن؟!

هل سيرث من أبويه ومن البيئة المحيطة أهمية القرآن، وأنه للقلب كالروح للجسد، أم سيرث التقديس الشكلي له، وعدم الاهتمام بفهم خطابه؟!

وعندما يكبر الأولاد ويكونون في سن المدرسة، فإن بعض الآباء يأخذ بأيديهم إلى مراكز تعليم القرآن، فيزداد الأمر رسوخًا لديه بأن المطلوب مع القرآن هو: ألفاظ تقرأ أو تحفظ بلا وعي ولا إدراك ..

الصورة الذهنية:

يقول عمر عبيد حسنة:

إن الصورة التي طبعت في أذهاننا، في مراحل الطفولة للقرآن أنه لا يُستدعي للحضور إلا في حالات الاحتضار والنزع والوفاة، أو عند زيارة المقابر، أو نلجأ لقراءته عند أصحاب الأمراض المستعصية، وهي قراءات لا تتجاوز الشفاة (?).

ويقول الإمام محمد عبده رحمه الله:

معرفتنا بالقرآن كمعرفتنا بالله تعالى أول ما يُلقن الوليد عندنا من معرفة الله تعالى هو اسم (الله) تبارك وتعالى، يتعلمه بالأيمان الكاذبة، والصادقة: (والله لقد فعلت كذا وكذا، والله ما فعلت كذا).

طور بواسطة نورين ميديا © 2015