وكذلك القرآن: يسمع الصبي ممن يعيش معهم أنه كلام الله تعالى، ولا يعقل معنى ذلك، ثم لا يعرف من تعظيم القرآن إلا ما يعظمه به سائر المسلمين الذين تربى بينهم وذلك بأمرين:

أحدهما: اعتقاد أن آية كذا إذا كُتبت ومحيت بماء وشربه صاحب مرض كذا يشفى، وأن من حمل القرآن لا يقربه جن ولا شيطان ويبارك له في كذا وكذا إلى غير ذلك مما هو مشهور ومعروف للعامة أكثر مما هو معروف للخاصة.

ثانيهما: الهزَّة والحركة المخصوصة والكلمات المعلومة التي تصدر ممن يسمعون القرآن إذا كان القارئ رخيم الصوت، حسن الأداء، عارفًا بالتطريب على أصول النغم.

والسبب في هذه اللذة والنشوة هو حسن الصوت والنغم، بل أقوى سبب لذلك هو بُعد السامع عن فهم القرآن .. وأعنى بالفهم ما يكون عن ذوق سليم تصيبه أساليب القرآن بعجائبها وتملكه مواعظها فتشغله عما بين يديه مما سواه (?) ..

ورثنا القرآن:

لقد ورثنا القرآن فيما ورثناه عن السابقين .. ورثناه ككتاب مقدس تقديسًا شكليًا: نُقبَّله .. نفتتح به الحفلات والمناسبات .. تكتب آياته في تابلوهات أنيقة تزين الجدران، أو تدق على مصكوكات من الذهب والفضة لتتزين بها النساء.

يصف أبو الحسن الندوي هذا الحال عند حديثه عن العوامل التي أثرت في تكوين شخصية محمد إقبال فيقول:

أما الأستاذ الآخر الذي يرجع إليه الفضل في تكوين شخصيته وعقليته، فهو أستاذ كريم لا يخلو منه بيت من بيوت المسلمين، ولكن ليس الشأن في وجود الأستاذ، وكونه بمتناول اليد من تلاميذه، إنما الشأن في معرفته، وتقديره، وجلاله، والإفادة منه، وإلا لكان أبناء البيت، ورجال الأسرة، وأهل الحي أسعد بعالمهم، وأكثر انتفاعًا من غيرهم، ولكن بالعكس من ذلك رأينا أن العالِم الكبير والحكيم الشهير، والمؤلف العظيم، ضائع في بيته، مهجور في داره، يزهد فيه أولاده، ويستهين بقيمته أفراد أسرته، ويأتي رجل من أقصى العالم، فيغترف من بحر علومه، ويتضلع من حِكَمه.

لا تذهب بكم الظنون، ولا يبعد بكم القياس أيها الإخوان! فذلك الأستاذ العظيم هو «القرآن الكريم» الذي أثر في عقلية إقبال، وفي نفسه ما لم يؤثَّر فيه كتاب ولا شخصية، ولكنه أقبل على قراءة هذا الكتاب إقبال رجل حديث العهد بالإسلام، فيه من الاستطلاع والتشوق ما ليس عند المسلمين الذين ورثوا هذا الكتاب العجيب، فيما ورثوه من مال ومتاع ودار وعقار (?).

* * *

ثانيًا: طول الإلف

إن وجود الشمس، وشروقها وغروبها كل يوم آيات عظيمة تدل على القدرة المطلقة للخالق - سبحانه وتعالى- وعلى قيوميته على جميع خلقه، وأنه لا تأخذه سنة ولا نوم ..

هذه الآيات التي نشاهدها كل يوم: صباحًا ومساءً لماذا لا تؤثر فينا؟!

الجواب هو: لأننا ألفنا وجودها منذ الصغر.

(فطبيعة النفس البشرية إذا ألِفت الشيء خفى عليها أسراره، وصرفها هذا الإِلف عن التفكر فيه ثم اكتشاف ما فيه) (?).

فإذا ما انتقلنا للقرآن الكريم فإننا نجد أن (طول الإلف) له دور كبير في عدم انتفاعنا به ..

فمنذ الصغر ونحن قد ألفنا القرآن يُتلى بنغمة وتراتيل معينة، لا تظهر هذه النغمة في كلام آخرم سواء كان شعرا أو نثرا أو أغانٍ.

وباستمرار سماع هذه النغمة تعودت الأُذن عليها، وألِفتها دون محاولة الإصغاء إلى معنى الكلام الذي يصاحبها.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015