ومع اهتمام الصحابة الشديد بالقرآن، والحرص على تلاوته كل يوم، والإكثار من مدة المكث معه، إلا أن هذا لم يدفعهم للإسراع في حفظ الآيات، باعتبار أن من أهم أهداف التلاوة هو الزيادة المستمرة للإيمان، وتوليد الطاقة الدافعة للعمل، وفي نفس الوقت فإن هدف الحفظ يختلف، فالذي يحفظ ألفاظه لابد وأن يدرك معانيها، ويعمل بما تدل عليه حتى يُصبح حاملاً حملاً صحيحًا لهذه الألفاظ ولا يكون ممن عناهم الله عز وجل بقوله: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا} [الجمعة: 5].
لذلك نجد التمهل وعدم الإسراع هو سمة الصحابة في حفظ القرآن، وليس أدل على ذلك من قول أبي عبد الرحمن السُّلمى: حدثنا الذين كانوا يُقرؤننا القرآن كعثمان بن عفان، وعبد الله بن مسعود رضي الله عنهما، وغيرهما أنهم كانوا إذا تعلموا من النبي صلى الله عليه وسلم عشر آيات لم يجاوزوها حتى يتعلموا ما فيها من العلم والعمل، قالوا: فتعلمنا العلم والعمل جميعًا (?)، وزاد في رواية الفريابي: وأنه سيرث القرآن من بعدنا قوم يشربونه شرب الماء لا يجاوز هذا، وأشار بيده إلى حنكه (?).
لقد كان الصحابة - رضوان الله عليهم- يدركون قيمة القرآن وأنه {قَوْلاً ثَقِيلاً} [المزمل: 5]. يقول عبد الله بن عمر: كنا صدر هذه الأمة وكان الرجل من خيار أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ما معه إلا السورة من القرآن أو شبه ذلك، وكان القرآن ثقيلاً عليهم، ورزقوا العمل به، وإن آخر هذه الأمة يخفف عليهم القرآن، حتى يقرأه الصبي والأعجمي فلا يعملون به (?).
ولقد أخبرهم الرسول صلى الله عليه وسلم بذلك حين قال: «يخرج أقوام من أمتي يشربون القرآن كشربهم اللبن» (?).
لذلك لما بدأ المسلمون في عصر التابعين يقبلون على حفظ القرآن بشكل مختلف عما كان يفعله الصحابة، ازداد تحذير الصحابة لهم وتخويفهم من خطورة حمل ألفاظ القرآن دون إدراك معانيه ومعرفة أحكامه، والعمل بما تدل عليه آياته. فقد جمع أبو موسى الأشعري الذين حفظوا القرآن في الكوفة، وكان عددهم يبلغ قرابة الثلاثمائة، فعظَّم القرآن، وقال:
«إن هذا القرآن كائن لكم ذخرًا، وكائن عليكم وزرًا، فاتبعوا القرآن ولا يتبعكم، فإنه من اتبع القرآن هبط به على رياض الجنة، ومن اتبعه القرآن زجَّ به في قفاه فقذفه في النار» (?).
وعندما جاء رجل إلى أبي الدرداء وقال له: إن ابني قد جمع القرآن، فانزعج أبو الدرداء وقال له: اللهم اغفر. إنما جمع القرآن من سمع له وأطاع (?).
وكيف لا يقول هذا، وهو القائل: أخاف أن يقال لي يوم القيامة علمت أم جهلت؟
فأقول: علمت. فلا تبقى آية في كتاب الله آمرة أو زاجرة إلا و تسألني فريضتها.
تسألني الآمرة: هل ائتمرت؟ وتسألني الزاجرة: هل ازدجرت؟!
فأعوذ بالله من علم لا ينفع، ومن دعاء لا يسمع (?).
وكان يقول: لو أعيتني آية من كتاب الله عز وجل فلم أجد أحدًا يفتحها عليَّ إلا رجلاً بِبَرْك الغماد لرحلت إليه (?).