وقيل لنافع: ما كان يصنع ابن عمر - رضي الله عنهما - في منزله؟ قال: لا تطيقونه: الوضوء لكل صلاة، والمصحف بينهما (?).
وعن خيثمة قال: دخلت على عبد الله بن عمرو وهو يقرأ في المصحف فقلت له، فقال: هذا حزبي الذي أقرأ به الليلة (?).
وكان الحسن بن على يقرأ ورده من أول الليل، وحسينا كان يقرأه من آخر الليل (?).
وقالت عائشة: إني لأقرأ حزبي، أو قالت: سُبعي، وأنا جالسة على فراشي أو سريري (?).
وكان أبو موسى يقول: إني لأستحي أن أنظر كل يوم في عهد ربي عز وجل مرة (?).
وذات يوم قام عبد الرحمن بن عبد القارئ بزيارة عمر بن الخطاب في داره، فتركه عمر وحيدا لمدة طويلة، ثم أذن له بالدخول عليه، وقال له معللا ما فعل: إني كنت في قضاء وردي (?).
لقد كانت هناك مساحة معتبرة للقرآن في يومهم، لدرجة أن بعضهم كان يختمه في ثلاثة أيام والبعض في سبع، والبعض في عشر، مع التدبر والترتيل والتجاوب مع الآيات كما مر علينا، والذي ساعدهم على المداومة على ذلك هو استشعارهم لقيمة القرآن من ناحية، ولتحذيرات الرسول صلى الله عليه وسلم المتكررة لهم بعدم الانشغال بغيره من ناحية أخرى .. لذلك كان القرآن يصحبهم في كل وقت، حتى في المعارك لم يتركوا قراءة القرآن كما مر علينا في معركة القادسية ..
والذي كان يسير في طرقات المدينة ليلا فلن تخطئ أذناه آيات القرآن وهي تنساب من كل بيت، فالجميع يقرأ ويترنم ويبكي، ويستشعر حلاوة الإيمان، ولذة الوصال، فيدفعه ذلك إلى مزيد من القراءة بتدبر وترتيل .. يستوي في ذلك الرجال والنساء، ولقد مر علينا قوله صلى الله عليه وسلم: «إني لأعرف أصوات رفقة الأشعريين بالقرآن حين يدخلون بالليل، وإن كنت لم أر منازلهم حين نزلوا بالنهار» (?).
وكان صلى الله عليه وسلم يسير فمر على امرأة تقرأ {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} فقام يستمع ويقول: «نعم قد جاءني» (?).
لقد كان القرآن هو محور حياتهم، ومادة حياة قلوبهم .. يحرصون على تحصيلها أكثر من حرصهم على تحصيل الطعام والشراب والراحة، ولم لا وهم يدركون بأن الحياة الحقيقية هي حياة القلب .. انظر إليهم بعد دخولهم مكة فاتحين مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أيام حافلة بالمجهود العظيم والسفر الطويل .. أليس من الطبيعي أن يخلدوا للراحة في الليل بعد انتهاء مهمتهم؟! ولكنهم لم يفعلوا ذلك بل ظلوا حول الكعبة يصلون ويقرأون القرآن ويركعون ويسجدون ويتضرعون إلى الله يحمدونه ويشكرونه على عظيم فضله.
جاءت هند بنت عتبة زوجها أبي سفيان بن حرب صبيحة فتح مكة، فقالت له: أريد أن أبايع محمدًا.
قال أبو سفيان: قد رأيتك تكفرين. قالت أي والله، والله ما رأيت الله تعالى عُبد حق عبادته في هذا المسجد قبل الليلة، والله إن باتوا إلا مصلين قيامًا وركوعًا وسجودًا (?).
فلا عجب إذن - أخي القارئ- أن تظهر هذه النماذج الفريدة، وبهذه الأعداد الكبيرة، فالمدرسة واحدة، والمنهج واحد، والنبع صافٍ فياض لا ينضب.