السيد؛ ولكن الإنصاف يا سيدي إن لم يكن فوقه إلا الحق فذلك لأنه هو أساس الحق، ولقد أخبرتك أن هذه الحرية التي تزعمونها في الكتابة والنقد إن لم تكن مقيدة بالإنصاف وتواعده فهي سخافة ودعوى، وطلبتَ مني هذه القواعد ولعلي أكتبها لك يوماً إن شاء الله.
* * *
ولننظر الآن في نقدك "رسائل الأحزان"، والعلة في أنك لا تفهمها.
فأما النقد فليس هناك إلا أنك لا تفهم كما تدعي على نفسك، وماذا علي من ذلك، ولقد قلت لك إن الذي لا تفهمه أنت يفهمه سواك، وإن الله خلق رؤوساً غير رأسك وعقولاً غير عقلك، وإنه ليس من أَحد يعترف أنك مقياس العقل الإنساني في الأرض؛ فمسختَ هذا كله وزعمتَ أني قلت لك "لِمَ تتخذ نفسك مقياساً للناس " ثم رددت على هذه الكلمة بقولك: "إني أتخذ نفسي مقياساً لنفسي" ففسر لي أصلحك الله كيف تكون نفسك مقياساً لنفسها؟
أليس المقياس آلة لقياس غيره، فكيف يتأتى لك أن تكون نفسك التي تقيسها غير نفسك التي تقيس عليها؟ أم أنت ستلجأ إلى أصول البلاغة وتجعل العبارة على التجريد؟
فلم لا تفهم الكلام البليغ على هذه الأصول بعينها؟ وما هذا التحذلق وما هذا التداهي؟ (أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (22) .
وإما أنك لم تفهم فلست أردُّ عليك بفلان وفلان ممن فهموا الكتاب
وأعجبوا به وأثنوا عليه، وأنت تعرفهم وتذعن لهم وتبالغ في تقديمهم، ولا أرد عليك بأن الطلبة فهموه، ولا بأن النساء فهمنه؛ وانظر ماذا كتبت مجلة
"السيدات " في مصر وماذا كتبت مجلة "منيرفا" في سورية، فإنك لا تطمع في
سطر واحد من مثل هذه الكتابة.
لا أراد عليك بهذا ولا بنحوه، ولكني أقول لك إن العسكري روى عن الأنصاري قال: قلت لبعض الكتاب - كتاب الخراج
وأشباههم من رجال الديوان -: ما فعل أبوك بحمارِه؟ قال باعِه!
قلت: فلمَ تقول باعِه؟
قال: وأنت فلم تقول بحمارِه؟
فقلت: أنا جررته بالباء.
قال: فمن الذي جعل باءك تجر وبائي أنا. . . لا تجر
"يعني الباء التي في فعل باع". . .
أليس هذا فهماً يا دكتور، وقد اجتهد الرجل في القياس وانتهى إلى هذه
النتيجة؛ فما عسى أن تقول، ولمن تشكو مثل هذا الفهامة؟ إلى السلطان؟ إلى أهل اللغة؟ إلى الأطباء؟ . . . ولكن هل كان فهمه أن الباء في "باعه " حرف جر مما يفسد مقاييس النحو ويكره اللغة على أن تتسع لحكمه وتطرد على قياس