على منع قرض الشعر وروايته والتأدب به، وذلك كما أن نصرانية الأخطل
والقطامي وأمثالهما لم تمنع متأدبي الإسلام من رواية أشعارهم وحفظها والتأدب
بها، وأن وثنية أكثر شعراء الجاهلية لم تحل دون انطباع طلاب الفصاحة من
المسلمين بأساليبهم ونسجهم على منوالهم، ومَق مِن العلماء والمؤرخين
المحققين يقدر أن يقول إن أدباء العرب بعد الإسلام رغبوا عن شعر الجاهلية
وأهملوا روايته من أجل أن قائليه كانوا شركين؛ أو أن المسلمين طووا كلام
قس بن ساعدة لأنه كان نصرانياً؛ أو لم يعجبوا بقصيدة "إذا المرء لم يَدنس من
اللؤم عرضه " لأن صاحبها كان يهودياً؛ مَن يا رب يقول هذا إلا الذين يبنون التاريخ على الأهواء والخيالات؟
وقع التشدد في مثل هذه الأمور في أيام الدولة العباسية؛ لبعد العهد
بسذاجة الدور الأول، وميلِ هذه الدولة إلى مناحي الأعاجم، وفُشُوِّ الفلسفة اليونانية والفارسية والهندية في دار السلام، مما أخاف الخلفاء ووزراءهم على العقيدة الدينية وحَفَزهم على الاحتياط لعدم انحلالها، وهذا أشبه بما كان في أوروبا في القرون الوسطى، لا بل في القرون الأخيرة، لا بل بما لا تزال بقاياه إلى هذه الآونة، وبرغم ما كان من هذا الاحتياط في أيام العباسيين ومَن في عصرهم من ملوك الإسلام فقد كان الناس يروون أهاجيهم ومثالبهم ويتناشدون المطاعن الفاحشة في أعراضهم حتى في مجالس أقرب الناس إليهم، وقد قال ْالمأمون للقاضي يحيى بن أكثم: من ذا الذي يقول:
قاض يرى الحدَّ في الزناءِ. . . لا يرى على من يلوط من باس
يشير إلى أن هذا البيت قيل فيه، فأجابه: هو الذي يقول يا أمير
المؤمنين:
لا أرى الجور ينقضي وعلى الأمَّة. . . والٍ من بني العباس
وقد شاعت أقاويل التعطيل والإلحاد في هاتيك الأيام برغم الضبط
والمراقبة ودونت أقوال الملحدين والدهريين.
ورويت أشعار المعري ومن في سبيله حتى ما يخالف الدين الإسلامي مثل
قوله:
وقوم أتوا من أقاصي البلاد. . . لرمي الجمار ولثم الحجر
وكثير غير هذا من أقواله، ورسالة الغفران وصلت إلينا، ولولا أنها