ليت أشياخي ببدر شهدوا. . . جزعَ الخزرج من وقع الأسل
روى هذا المسلمون وما زالوا يروونه، وفي زمان بني أمية كان العهد
بسذاجة الجاهلية قريباً، فكانت الحرية في القول تامة والألسنة منطلقة، ومما
عُزيَ إلى يزيد يوم جيء برأس الحسين رضي الله عنه:
مذ أقبلت تلك الرؤوس وأشرقت. . . تلك الشموس على ربي جيرون
صاح الغراب فقلت صح أو لا تصح. . . إني قضيتُ من النبي ديوني
ثم عُزي الوليد أنه قال وقد سكر ومزق القرآن:
إذا ما جئتَ ربك يوم حشر. . . فقل يا رب مزقني الوليدُ
نعم رُويت هذه الأشعار وأمثالها مع لعن قائلها، ولكنها رويت وقيدت في
التواريخ ولم تمنع روايتها، ولا كان قلم مراقبة ولا ديوان تفتيش ولا كتب جائزة ولا كتب ممنوعة.
وأما عدم حرمة النبي والصحابة للشعر وقولهم إِن روايته ضلال، فهذا
زعم باطل مخالف للإجماع، فقد روى النبي - صلى الله عليه وسلم - الشعر واستحسنه وقال:
"إن من الشعر لحكمة"
ورواه عمر وعلي وسائر الصحابة وتناشدوه وطربوا له
وكان فكاهة مجالسهم.
وقصة كعب بن زهير مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإنشاده إياه
" بانت سعادُ" واهتزاز النبي - صلى الله عليه وسلم - لهذه القصيدة وإنعامه على كعب ببُردته الشريفة - كل ذلك لا يحتاج إلى بيان، ولكن الشعر كسائر الأشياء إذا أسيء استعماله انقلب إلى الضرر، وإذا كان وقع من عمر رضي الله عنه - وهو من أبصر الناس بنقد الشعر
وأشدهم اهتزازاً لجيده - تضييق على الشعراء، فيكون في المواطن التي أسيء
فيها استعمال الشعر وصار باباً للمشاحنات والفتن، وكما أن للخليفة طبيعة
ينعش بها إلى الأدب، ويعجب بسحر البيان، فإن عليه واجباً هو حماية
الأعراض وحفظ السلام.
أما إزراء الشعراء بالعلماء وما قاله بعض هؤلاء في الإعراض عنه والتعوذ
منه فهو من باب التورع من بعض الفقهاء، وذلك لأنهم كانوا يرون فيه مبالغة وغلوًا وعبثاً، فأشفقوا من أن يؤثر الاعتماد عليه في أخلاق النشءِ ويصرفهم عن العبادة؛ ولكن هذا الزهد في الشعر لم يحملهم ولا حَمل الخلفاء والسلاطين