تدوولت بالنسخ من قراب ألف سنة ما وصلت إلينا، ولو كان هناك "سانسور" ما أبقى على رسالة الغفران.
وتجادل نصراني في الدين مع أحد بني العباس، ونال النصراني من
العقيدة الإسلامية، وبلغ المأمون ذلك فقال ما معناه، ما كان أغنى ابن عمنا عن تعريض دينه للطعن!
والكتاب الذي كتبه أبو بكر الخوارزمي لشيعة نيسابور أشهر من " قِفا نبكِ.
وليس بكتاب خاص أو رسالة مكتومة، بل هو خطاب لأهل بلدة كانت من أشهر البلاد، وفيه من السب لمعاوية ما فيه، ومن النعوت لخلفاء بني أمية وبني العباس والخوض في أعراضهم ما لا يردُ في أقذع الجرائد وهو الذي يقول عن الرشيد: "هارون بن الخيزران"، وعن المتوكل "المتوكل على الشيطان لا على الرحمن " وهلم جرَّا، وكان أبو بكر الخوارزمي في زمن بني العباس، وكان إذا قال أثر الناسُ قوله وتدارسوه.
ولا أنفي - مع ذلك - أن الدولة الإسلامية في القرون التالية كانت تحجر
أحياناً على الفلسفة التي يراد منها التعطيل أو الالحاد، ويسمونها الزندقة، فأما إزالة شعر النصارى أو اليهود أو المشركين ومنع روايته فشيء لم يقع لا في زمن الصحابة ولا في أيام بني أمية ولا أيام بني العباس.
وقد ألف النصارى في تعظيم دينهم في زمان بني العباس كتباً كثيرةَ
وتواريخ أيدوا بها مذهبهم، وما اعترضهم أحد ولا منعت الدولة كتبهم.
وإن كان النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بأن لا يجتمع في جزيرة العرب دينان، وأَجلى عمرُ النصارى واليهود عنها، فلم يكن ذلك لينقص شيئاً من حرية النصارى واليهود في دينهم في سائر بلاد الإسلام، بل من حرية الصابئة والمجوس، وما قال مؤرخ غربي ولا شرقي إن الإسلام أكره أحداً في الدين أو منع كتب الملل الأخرى.
فيا إخواننا إن التاريخ لا يكون بالظن، وإن الظن لا يغني من الحق شيئاً.
وهذا نتف من كثير، ووشل من بحر؛ ولو كانت بيدنا الآن كتب لأحلناكم على شواهد لا تنتهي، فإن كنتم مع هذا تصرون على المخالفة لأجل المخالفة فليس هذا مما يزيد الثقة بعلمكم، بل هو مما ينقصها، وبدلاً من أن يضع العلم على قواعد اليقين يضعه على قواعد أوهى من بيت العنكبوت. . .
شكيب أرسلان
رومة في مارس سنة 1926 م