الملك، وما أشبه ذلك من التوجيهات التي لم يقم عليها أدنى دليل - نعلم أنه
حاول أن ينهج مناهج الممحصين فظن التمحيص مجرد الخروج عن الإجماع
ولو كان الإجماع صحيحاً، فلم يصب المرمى.
وعندما يقوم آخر فيدعي أن السلف في صدر الإسلام وضعوا "سانسورا"
على الشعر الجاهلي المُشرَب مبادئ الوثنية أو النصرانية أو اليهودية - نعلم أن هذه الدعوى مبنية على الافترَاض والتخيل، وأنها لا تستند على دليل بل الواقع يناقضها من كل الجهات.
أعجبتني جداً عبارة الذي رد على هذه الفئة فقال لهم: "مَن مِن ملوك
المسلمين وحكامهم أمر بوأد الشعر الوثني واليهودي والنصراني ومَحوه؟
مَن مِن أعوان هؤلاء الحكام تولى ذلك؟ وكيف كانت طريقة المحو؟
وهل كتب لها النجاح في كل بلاد الإسلام؟ . . . الخ ".
والحقيقة أنه ليس لهم من جواب على هذا السؤال، ولا حيلة لهم في التخلص
منه إلا بإيراد أدلة واهية لا تدفع شيئاً من حقيقة حرية الرواية في ذلك العصر ومِن كون بابها بقي مفتوحاً على مصراعيه؛ ولا تنفي أن عصر الصحابة لم يعرف "السانسور" ولا مراقبة الرواية، رلا كمِّ الأفواه، ولا شيئاً من أوضاع "ديوان التفتيش ".
وإذا تأملتَ في كلام هذه الفرقة رأيتهم يشيرون من طرف خفي إلى نزول
درجة الحضارة التي كان عليها الصحابة، وأن شرائعهم وقوانينهم إنما كانت
شرائع قوم في طفولة المدنية، وأنها "لا تمس الحياة إلا قليلاً"، وما أشبه ذلك، ثم ينسون أن مراقبة الكتابات والروايات إن هي إلا من أوضاع الهيئات
الاجتماعية المتمدينة التي استبحر فيها العمران وتأثل الملك، وأن "السانسور"
لا يأتي مع بداوة المجتمع ولا يعقل وجوده في أيام السذاجة كالتي عاش فيها
النبي - صلى الله عليه وسلم - والصحابة رضوان الله عليهم.
فمراقبة الكتب والخطب كانت تقع في رومية والقسطنطينية لعهد عظمة
القياصرة، وفي أيام سلطة الباباوات، وفي عهد ملوك فاتحين كـ لويس الرابع عشر، وقد بالغ فيها نابليون الأول ثم الثالث، وقد وقعت من أيام العرب في عهد العباسيين وغيرهم من ملوك الأعاجم، أو الملوك العرب الذين اتخذوا أطوار الأعاجم، فأما القول بأنها كانت في عهد الخلفاء الراشدين وفي أيام الصحابة فمحض تحكم ومكابرة.