نعم كان هؤلاء الناس من شديدي التحمس بالدين الجديد الذي جاءهم به
محمد - صلى الله عليه وسلم -، ولكن حماستهم هذه لم تقلع ما في قلوبهم من حب الحرية التي نشأوا عليها في الجاهلية والتي لا يوجد في الشرق ولا في الغرب أمة بلغت شأو العرب فيها، ومن قال:
"إن العرب أعرق الأمم في الحرية" فغير مبالغ، لهذا تجدهم رووا
بألسنتهم وكتبوا بأقلامهم جميع مطاعن المشركين في النبي - صلى الله عليه وسلم - وصحبه ولم يُخفوا منها قليلاً ولا كثيراً، ونقلوا الشبه والاعتراضات التي كانت تقع عَلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - ورهطه، وذكروا كثيراً مما كان يرد به بعض العرب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكيف أن اثنين تخاصما إليه فحكم لأحدهما، فقال المحكوم عليه: هذا حكم لم يُرد به وجه الله، فقال عليه الصلاة والسلام:
" أوذِيَ موسى من قبلي بأكثر من هذا"
وغير ذلك مما هو مستفيض في كتب السيرة النبوية وأخبار صدر الإسلام، ومما رواه الرواة المسلمون وحرره الكتبة المسلمون وأقرأه العلماء المسلمون، ولم يكن عندهم حرج في نقل تلك الأحاديث وإبرازها كما جاءت، لأنهم كانوا على بينة من دينهم الذي دانوا به، وكانت قلوبهم مطمئنة بالإيمان، وكانت سيرة النبي - صلى الله عليه وسلم - معلومة
عندهم بدقائقها، فلم يكونوا يحتاجون فيها إلى "السانسور" دَرءاً للشبهات عنها وخوفاً من أن يُفضي تدأول هذه الروايات إلى زعزعة عقيدة الإسلام التي لم تكن منذ بها جاء بها صاحبها - صلى الله عليه وسلم - إلى اليوم على شفا جُرف هار.
إن الإسلام مولود رُزق الصحة ووثاقة التركيب منذ ولادته.
نعم في هاتيك الأيام وما يليها كانوا يردون أهاجي بعض الشعراء للصحابة
والأنصار و "لبني النجار" وفي تلك الأيام كان يعاتبُ الرسول ويقال له:
ما كان ضَرك لو عفوتَ فربما. . . مَن الفتى وهو المَغيظُ المُحنقُ
في أيام السلف كان ينادي الأخطل:
ولستُ بصائم رمضانَ عمري. . . ولستُ بآكل لحم الأضاحي
ولستُ بقائل ما عشتُ يوماً. . . قُبيل الصبح حيَّ على الفلاح
كان يقول هذا ويدخل على الخلفاء ويجيزونه الجوائز السنية، وكان هو
وغيره من النصارى واليهود يفتخرون بدينهم ويعلنونه في أشعارهم التي كان
يرويها المسلمون ويقيدونها في دفاترهم، ولما جاء الملكَ النعمانَ ابن المنذر
رجل نصراني في اليوم الذي كان عنده يوم بؤس وأمر النعمان بقتله، استماحه النصرانى مهلة أن يذهب ويودع أهله، فأذن له، على أن يقدم كفيلاً يحل محله فى القتل إذا هو لم يرجع، فرجع، وتعجب النعمان من وفائه، فسأله: