يخفض عليه ويقول: ما عرفني، فيقول الوزير: هبهُ ما عرفك.
فما عذره في حسن الأدب؟
ثم أدخله الدار وأكرم مجلسه وخلا به فتحدثا طويلاً حتى خرج
"الوزير" بين يديه على هيئته تلك، فلما أن ركب وانفصل قال الفتى لأبيه: من هذا الذي عظمته هذا التعظيم؟ . . .
قال: اسكت ويحك! هذا أديب الأندلس
وإمامها وسيدها في "علم الآداب" هذا أبو محمد عبد المجيد بن عبدون أيسر
محفوظاته كتاب الأغاني - انتهى.
ومن ذلك نعرف كيف ابتذل هذا اللقب العظيم - لقب الأديب - في زمننا
حتى لم يُحرم منه إلا العامة من الجهلاء، وإلا نفر ممن لا يدفعون ثمنه للجرائد
في أخبار الهناء والعزاء.
وقد نظرت في كتب يقول أصحابها إنهم صنفوها في "آداب اللغة العربية"
وما أظن كتاباً طبع في ذلك للمحدثين ولم أقف عليه، ولا أظن كأني وقفت من ذلك على كتاب. . . فهم يثبتون في كتبهم بعض فصول في تاريخ اللغة ونظمها ونثرها، ويومئون إلى طائفة من الكتاب والشعراء غير منتقدين ولا مميزين، ويأتون بشيء من كلامهم يصيبونه - كما يقول النحاة - حيثما اتفق، وقد يتكلمون في العلوم الاثني عشر ويسردون لك أسماء من الكتب المؤلفة فيها، وإنك ما أصبت من فائدة في بعض كتبهم فذلك حكم الجمع ومما يطرده لك التأليف، ولا أقبح من كتاب
تستعرض فيه العقول وتتصفح الآراء إلا عقل صاحبه ورأيه وهم وإن ذكروا أن اختيار المرء قطعة من عقله إلا أن ذلك على جهة نوع المختار ومنزلتيه من الأشباه والنظائر، لا على جهة أن للعقل في ذلك عملاً يُلزمه التبعة ويأخذه بالعهد، إذا كان الاختيار على حسب ما تنبعث له الرغبة، وكانت الرغبة على مقدار ما يهيئه الطبع وتعطيه القوة، فلا يحسن عند الفقيه مثلاً اختيار الطبيب من أهل الفقه، ولا عند اختيار صاحبه مما هو بسبيله، وهكذا.
وليت شعري أين من عهدنا طبقات الرواة والحفاظ وأهل النقد والجرح
والتعديل، فإنهم منا كطِباق السماء مع الأرض، وما ذلك لانقطاع الرواية
وذهاب أثرها، فإن في دراسة الكتب وتصفح الأسفار بعض الغناء، ولكنه من فساد التلقين وسوء التلقي بما نشأت عن موت الذين يصلحون للإفادة، ولقد كانت الرواية في ذلك الصدر درساً من أحسن الدروس الجامعة، إذ يتناول مجلس الرواية الأدبيات بأنواعها بحثاً وشرحاً وإيراداً وتمحيصاً، فيعي الطالب من ذلك في الساعة الواحدة ما لو تُرك فيه لنفسه ومبلغ همته لدأب في تحصيله بضع سنين