والفطنة المؤاتية، حتى لا يكون برماً بالحجة إذا نزع بها، ولا ضعيف الدليل إذا حاول الاستخراجَ والتعليل، ثم الإحاطة بذلك كله إحاطة تاريخية فلسفية وتدبره على اختلاف وجوهه وأسبابه، وهو كله جملة واحدة لا يغني فيه بعضه عن بعض، وعلى مقدار ما يبلغ منه الأديب يكون أدبه، فقد يقال للعالم باللغة لغوي، ولصاحب النحو نحوي، ولمن يقرض الشعر شاعر، وبالجملة ينسب كل ذي علم إلى علمه إلا الأديب، فلا علم له إلا مجموع تلك العلوم وإحسان المشاركة فيها جميعاً.
ولا أذهب بك بعيداً في انتزاع المثال، أو أحيلك على أن تتبع ذلك في
أوصاف الرجال، ولكي أسوق لك هذا الخبر عن ابن عبدون الأديب الشاعر
الأندلسي، لتستبين منه أصل الأدب فيمن كانوا يسمونه أديباً:
ذكروا أن أبا بكر بن زهر الوزير الأندلسي حضر إليه في داره - وهو فتى -
شيخ كان ينسخ له كتاب الأغاني، ومعه كراريس مما كتب ولكنه نسي أن يحضر أصولها من الكتاب، فبينما هو يكلم شيخه إذ دخل عليه رجل بَذ الهيئة، غليظ الثياب، على رأسه عمامة قد لاثها من غير إتقان، فتقدم إليه أن يستأذن له على أبيه الوزير أبي مروان، فحملته نزوة الصبي وما رأى من خشونة هيئته على أن تكلَّف جوابه وكَرَّهَ له من وجهه، فسكت عنه الرجل ساعة ثم سأله عن الكتاب الذي في يده وإلى أين بلغ الكاتب منه وما له لا يكتب، فعبث به أبو بكر وجعل يسخر منه ويضحك على قالبه وشكله، ومع ذلك لا يتكلف له إلا النبذ من خبر ما يسأل، فلما علم الرجل أن أصل الكتاب غيرُ موجود لدى الناسخ ليعارض به، قال له: يا بني، خذ كراريسك وعارض فإني كنت أحفظ الكتاب في صباي، فتبسم الفتى ضاحكاً من قوله، فقال الرجل بعد أن تراءى ذلك منه: يا بني أمسك على وجعل يقرأ.
قال ابن زهر فوالله إن أخطأ واواً ولا فاء حتى قرأ نحواً من كراستين.
ثم أخذ له في وسط السفر وآخره، فإذا حِفظه في ذلك
كله سواء، فقام مسرعاً حتى دخل على أبيه وذكر له الخبر وصاحبه؛ فخف
الوزير أبو مروان من فوره، وكان ملتفا برداء ليس عليه قميص، وخرج حاسر الرأس، حافي القدمين لا يرفه على نفسه، وابنه بين يديه وهو يقول: يا مولاي اعذرني! فوالله ما أعلمنا هذا الجلفُ إلا الساعة! وجعل يسب ابنه والرجل