مبعوث مهما كان قويً العارضة قاطع الحجة أن يخاصم زهراب لا سيما في
التشريع، فاتفق أن بعض مبعوثي الترك من المولعين بالجديد - لمجرد ادعاء
الرقي العصري - اختلفوا مع زهراب في سن مادة قانونية، فعقدوا لها مجلسا
خاصاً؛ وانبرى لزهراب اثنان من هؤلاء العصريين يجادلانه ويحاولان أن
يحملاه على رأيهما، فبعد حوار طويل تغلب زهراب عليهما وألزمهما الحجة
ولم يبق أمامهما إلا السكوت، إلا أن زهراب أخطأ في شيء، وهو عدم معرفته عقلية هذه الفئة، فبعد أن أخرسهما في الجدال عاد فقال لهم: وهذا أيضاً وفق أحكام شريعتكم (الإسلامية) التي تقول كذا وكذا.
حدثنا الأستاذ الفلكي الرياضي فطين أفندي مدير مرصد الآستانة، أنه لما قال لهما زهراب هذا القول عادا فنبرا بغتة قائلين: إذا كان الأمر كذلك فلا نقبل هذا الرأي! ومن بعد تلك الفلتة لم يعد زهراب قادراً أن يقنعهما بوجه من الوجوه، فليس صواب الشيء وعدمه هو الحاكم عند هذه الفئة، بل هو مصدر الشيء بدون نظر إلى أي اعتبار
آخر، فإن علموا كونه آتياً من طريق الدين أو ملائماً لحكم وارد في الشرع
استمرأُوا مذاقه قبل أن يذوقوه، وليس هذا منحصراً في الترك وفي الفئة التورانية منهم، بل عندنا نحن من هذا النخل فسيل في مصر والشام وغيرهما.
ويا ليتك ترى هذه الفرقة على شيء من التحقق بالجديد فيما يلزم فيه
الأخذ بالجديد من علم نافع أو فن مفيد أو صناعة دارة، فإن العلم لا يجب أن يكون فيه قديم وجديد، بل هو أصل يتفرع منه فروع كل يوم يتحتم على الإنسان أن يتتبعها كلها ناظراً إلى حقيقتها وصدق تجربتها وفائدتها للاجتماع.
كلا يا سيدي، قلما رأيت من هذه الفرقة إلا الادعاء الفارغ والنزوع إلى الثورة على ما يسمونه بالقديم، وهم ينسون أن هناك مبادئ ثابتة وبديهيات ليس فيها قديم وجديد، وأن الاثنين والاثنين أربعة من مائة ألف سنة فلا نقدر أن نعمل على ذلك ثورة، وأن المقولات العشر مما لا تتناوله الثورة وأن الثورة إنما هي واجبة على الجهل والوهم لا على الحق والعلم، وأن العلم لا يكون قديماً، وأن الأدب لا بد أن يراعَى فيه ذوق الأمة وتاريخها وعاداتها وعُرفها، وأنه ليس بتجربة كيماوية.
هذا يا أخي هو المرمى الصحيح ممن أخذ عليك "الجملة القرآنية" فأما
الفئات الأخرى ممن عجز عن الفصيح فأبغضه، ومن يستأنس بالركيك لأنه هو الشيء الوحيد - الذي يقدر عليه فهذه - خطبها يسير - وقلعتها أوهى من أن يحمل مثل قلمك عليها.
لوزان 8 فبراير سنة 1925 م
شكيب أرسلان