إني لا أرى أكثر مظاهر هذه الحضارة إلا أسلحة قاتلة تقتل الخير والرحمة
في قلوب الناس. فهي ترفع تكاليف الحياة وتزيد فيها وتُعسر آمالها، فتنشىء
بذلك الفقر المدقع، وتخرج معه الفوضى والاختلال، وتحدث به الأخلاق
السافلة كالتلصص والدماء والخبث والحسد ونحوها ويزيد العالمُ كل يوم
بأسباب كثيرة تبدعها الحضارة؛ فلا تكون الزيادة إلا عبثاً وشراً ومضايقة، لأن ما كان يكفي الجماعة ذات العدد أصبح لا يكفي إلا فرداً واحداً، ويومئذ لا تستقيم الإنسانية إلا بأن يغتذي بعضها من بعض، فيكثر القتل والاستراق والإباحة، ولكن في ألفاظ وتعابير مدنية. . . والآفة يومئذ أن الإنسانية تكبر والأرض لا تكبر، فتضيق الحياة بأهلها وتزيدها مطامعهم ضيقاً، فيتقرر عندهم نطام التفتيل ويصبح قانوناً إنسانياً عاماً، وما أرى هذا القانون سينفذ إلا في الأجنة في بطون أمهاتهن، بحيث يكون في كل أسرة ميزان للموت لا يعطي الدنيا من إحدى كفتيه طفلاً حياً إلا بعد أن يجتمع في الكفة الأخرى أربعة موتى أو أقل أو أكثر.
ولن يجدوا علاجاً من داء الحضارة إلا بالحمية منها، فيوشك إذا هم
تنبهوا إلى ذلك أن يمنعوا الناس من بعض فنون هذه الحضارة بقوة القانون، وأن يفرضوا عليهم بعض الجهل فرضاً يؤخذون به ليبقى تاريخ العالم متصلاً وليجد النوع الإنساني على هذه الأرض من يوجده بصفاته وخصائصه، فإن الأخلاق في تلك الحضارة قائمة على خير قواعدها، إذ لم يكن من سبيل لتغيير البناء الإنساني إلا بتغيير هذه القواعد.
وأنا أرى أنه لو انتزع من هذه المدنية أكثر حسناتها لذهب في ذلك أكثر
سيئاتها، إذ كانت الحسنة هي التي تخرج السيئة؛ فالغِنى الواسع بإزاء الفقر
الأوسع، والرفاهية السرية بإزاء الشيوعية والفوضى وهكذا، ونعيم هذه الحضارة نعيم في أقله وشقاء في أكثره، وهو يفسد من يناله بإضعاف أخلاقه القوية الصالحة، ويفسد من لم ينله بتقوية أخلاقه الضعيفة الفاسدة؛ ذاك تسقط به مؤاتاة الشهوات إياه، وهذا يسفل به امتناعُها عليه وهي لغيره معرضة؛ ذاك يفسده ما في نفسه، وهذا يفسده ما في نفسه وما في غيره.
ولا يذهبن عنك أن الحضارة تقرر في جميع الناس هذين الأصلين
العظيمين: الحرية والمساواة، فينشأ الناشئ عليهما ويترشح لهما في الحياة.
حتى إذا شب وانتهى إلى الواقع وجد تلك الحضارة بعينها هي التي تقتلع
الأصلين وترمي بهِما في وجهه، فليس في الواقع إلا أشراف ووضعاء، وإلا