الناس وتركته بلا أثر في طوائف أخرى، فكانت تحكيماً للشهوات في الخلق
وتمكيناً لأسبابها في الاجتماع، ومن ثم أخذت تقتلع الأخلاق الإنسانية من
أصولها.
وما أعرف أكثر مظاهر المدنية إلا أمراضا مسماة بغير أسمائها.
وكلها جميلة سائغة مشرقة، لأنها كلها تؤلف حلماً مريضاً كأحلام الخمر
والأفيون. . .
يحسب هذا الغربي المتحضر أنه قهر الطبيعة وسخرها فانتصر عليها، ولا
يعلم أن الطبيعة تهزأ به، لأن هذا النصر بعينه هو الذي يسلطها عليه فتهزم
أخلاقه وتوهن قوته الروحية وتطحن لبه في قشرته وتمكن فيه لأعراض الانحلال والسقوط، فهو لا يغير الطبيعة وإن انتصر عليها، وهي تغيره ثم تتركه يسمي نفسه المنتصر، فتضيف إلى حماقاته حماقة الغرور!
أصبح الغربي المتحضر عصبياً ثائراً حساساً يدلف إلى الجنون بخطى بطيئة
لكنها سائرة متحركة، وابتلته المدنية بأمراضها التي لم تكن في أسلافه.
كالسرطان وغيره، وضربته الشهوات بخدَر الحاسة الروحية وخمولها فأصبح
يعمل للغرض الأسمى بوسائل معكوسة لا تؤدي إلا إلى الغرض الأسفل.
ورجع كأنه غريب عن الطبيعة الخشنة التي لا بد له من خشونتها ليبقى قوياً بها وقويا فيها وقوياً عليها، وتغير من كل ذلك تاريخ عقله وأعصابه. فضعف النبوغ الفني وأصبح النمط العالي منه خاصاً بالتاريخ القديم وحده، مع أنه ليس بين القديم وبين الجديد إلا طبيعة هذه الحضارة وأثرها على العقول، أما الإنسان فهو هو.
بيد أنه في الحضارة الأولى المتخشنة كان كالدينار الجديد رزيناً
خشناً، فأصبح في هذه الحضارة الناعمة كالدينار الأملس مسحته الأيدي وأزالت حرشته فهو إلى ضعف وإلى نقص!
اتخذت الحضارة المرأة الغربية من وسائلها في ترقيق الطباع وإرهاف
الملكات، ومع المرأة ما معها من فنون الدعابة والمغازلة والمفاكهة والإغراء
وما تحت هذه من الطباع والأخلاق، فإذا العالم المتحضر في صبغة من الأنوثة
متى أخذ الدهر مأخذه فيها استحالت من بعدُ صبغة من الفجور يشمل هذا
العالم.
ويقولون: الجمال والفن! ولا يعلمون أنهما إذا استفاضا وعمَّا جاء منهما
الخبال والهوس، وخرج من اجتماع كل ذلك الانحلال والسقوط، كما وقع في التمدن الروماني والحضارة الغربية.