علية وسفلة، وإلا أفراد معدودون من كل طبقة يراغمون سائر الناس من العمال والمهَّان والمساكين ونحوهم، كأنَّ أساطين المال والسياسة هم وحدهم أصابع الدنيا تأخذ بهم ما هي آخذة، وبذلك ترجع عقيدة المساواة وإنها لعقيدةُ الظلم، وتعود فكرة الحرية وهي فكرة الاستعباد، فإذا سواد العالم المتحضر هو الناقم على الحضارة المستريب بها، وهو على سخطه ونقمته مسخر لمعيشته الضيقة المقسومة بالجرام من أيدي أصحاب القناطير، يعطيهم دمه بخبزه، ويشتري موته بعيشه، وذلك كله مما يجعله متربصاً بالفتن، سريعاً فيها إذا وقعت، تابعاً لكل من يدعوه إليها أو يستجيشه عندها، متوثباً على ما يدري وما لا يدري، كما يقع الآن في أوروبا!
فالكبير في هذه الحضارة ظالم هو أشبه بمظلوم، والصغير مظلوم وهو
أشبه بظالم، وكان الحقيقة نفسها خرجت من موضعها فكل شيء حقيقة وكل
شيء زور!
والروح الإنسانية متى أصبحت موتورة ساخطة متبرمة بأسباب مختلفة
كأسباب هذه المدنية من سياسية واجتماعية ووطنية - لم تكن روحَ الحياة ولكن روحَ القتل وما في حكمه، ومن ثم فلا بد في هذه الحضارة من انفجارات حربية مستمرة، ولا بد لها أن تجد من تقتله ومن تظلمه ومن تستعبده؛ وإذا تحاجزت الدول وتتاركت زمناً فإنما يُسمِن بعضها بعضاً في مراعي السلم والعيش وكل أمة عينها على شحم الأخرى! . . .
ولقد كانت الحرب العظمى تنقيحاً إلهياً عنيفاً لهذه الحضارة الزائفة.
فوضع الله يده عليها فمحت أكثر حسناتها ورقائقها وطُرفها البديعة، وأميتت
طباع الترف لتنبعث طباع القوة، وقرَّ في الرجل معنى الرجل وفي المرأة معنى
المرأة وكانا قبل ذلك وإن الرجل نصف امرأة وإن المرأة ضِعف نفسها. . .
فكان الحرب كانت مِصْفاة للحضارة ثُقوبها الخرائب والخنادق والقبور، ومتى
جَمعت الأوساخ بعد زمن فالمصفاة باقية. . .
لست أنكر أن الحضارة زينة الحياة الدنيا وبهجتها، ولكن آفتها أن غايتها
التي تجري إليها إنما هي المتعة واللذة وانتهاب العمر؛ فهي بذلك تؤتي جميع