ولو لم يكن من العجيب إلا أن أستاذ الأدب في الجامعة يجهل سبب

اختلاف الرواة في ألفاظ الشعر ومواضع أبياته، لقد كان في ذلك وحده ما

يخزي الجامعة أشد الخزي، فإن العرب إنما كانوا يحفظون ويتناقلون، وهم

قوم - كما قيل - أناجيلهم في صدورهم، فلم يكتبوا ولم يدونوا؛ ومع الحفظ النسيان قليلهُ وكثيره، فإذا نسي أحدهم الكلمة في بيت من الشعر وضع غيرها في مكأنها ليقيمه؛ إذ لا بد أن يرويه أو يتمثل به، ثم يكون غيره لم ينس فيروي الشعر على أصله، فتجتمع روايتان، فإذا كانوا ثلاثة فتلك ثلاث روايات كل منها بلفظ غير الآخر، وهلم جرا.

وقد يحفظ أحدهم القصيدة فإذا ردها يوماً على غيره قدم وأخر في بعض

أبياتها كما تتفق له حالة الذاكرة في ساعته تلك لا كما حفظها من قبل، إذ ليس عنده أصل مكتوب يعارض عليه، ويصنع غيره مثل هذا الصنيع بضرب آخر من التقديم والتأخير كما يتهيأ لذاكرته، ثم يكون غيرهما قد رواها وثبتت في حفظه فلم تختلط، فيأتي من ذلك في القصيدة الواحدة ثلاث روايات متعارضة، وإذا كثرت أبياتها كثرت رواياتها على حساب ذلك. وقد فصلنا أسباب هذا الاختلاف على أكثر وجوهه في الجزء الأول من

"تاريخ آداب العرب" فلا محل لإعادته هنا.

وإذا كانت الوحدة والشخصية الشعرية لا توجدان في الشعر الجاهلي لأنه

من عمل القصاص وتكلف الرواة، وكانتا موجودتين في الشعر الإسلامي الذي صحت نسبته لقائليه - فقد وجب إذن أن توجد في الشعر المصنوع على الجاهلية شخصية صانعيه على الأقل، لأنه موضوع بعد الإسلام، ولأن نسبته إلى قائليه "صحيحة" إذا لم تُقله الحجارة دوإنما قاله شعراء علماء يضعون الجيد ويحسنون حَوكه وصنعته، ومن ذا يستطيع أن يضع على امرئ القيس والنابغة والأعشى وغيرهم ثم ينخدع له علماء الشعر فيحملون كلامه ويروونه إلا إذا كان فحلاً مجوداً مبدعاً يعرف كيف يصنع وكيف يحتذي! فإذا كان كذلك فكيف يغفل هذا

الفحل عن الوحدة والشخصية فيما يقلده.

وإن غفل فأين تذهب شخصيته هو؟

وما هي هذه الشخصية الشعرية عند طه؟

يقول في صفحة 160 في ترجمة مهلهل الذي قيل إنه سُمْي بذلك لأنه

- " هلهل الشعر أي أرَقه: (وليس من شك في أن شعر مهلهل مضطرب فيه

- هلهلة واختلاط، ولكنا نستطيع أن نجد هذه الهلهلة نفسها في شعر امرىء

القيس وعبيد وابن قميئة وكثير وغيرهم من شعراء العصر الجاهلي، فقد

طور بواسطة نورين ميديا © 2015