دفعة واحدة؛ وهذه مخاطرة كما ترى، بل هي قمار في النقد، ولكنها تُنهي
المعركة بضربة، وما نظن كتاباً في الأدب لمتقدم أو متأخر مهما بلغ من السخف يمكن أن يقامر عليه في النقد بمثل هذه الطريقة، على حين ذلك ممكن في كتاب الجامعة المصرية، حتى ما من رأي فيه للمؤلف إلا هو خطأ من المؤلف، ولا تميز الجامعة السها من القمر! قال في صفحة 145 وقد ذكر اختلاف الرواة في معلقة امرئ القيس في بعض ألفاظها وبعض أبياتها: "وليس هذا الاختلاف مقصوراً على هذه القصيدة، وإنما يتناول الشعر الجاهلي "كأنه رواه كله. . . "
وهو اختلاف شنيع يكفي وحده لحملنا على الشك في قيمة هذا الشعر، وهو
اختلاف قد أعطى للمستشرقين صورة سيئة كاذبة من الشعر العربي، فخيل إليهم أنه غير منسق ولا مؤتلف، وأن الوحدة لا وجود لها في القصيدة، وأن
الشخصية الشعرية لا وجود لها في القصيدة أيضاً، وأنك تستطيع أن تقدم
وتؤخر، وأن تضيف إلى الشاعر شعر غيره؛ دون أن تجد في ذلك حرجاً أو
جناحاً ما دمت لم تخل بالوزن والقافية، وقد يكون هذا صحيحاً في الشعر
الجاهلي، لأن كثرة هذا الشعر منتحلة مصطنعة، فأما الشعر الإسلامي الذي
صحت نسبته لقائليه فأنا أتحدى أي ناقد. . . أن يعبث به أقل عبث دون أن
يفسده، وأنا أزعم أن وحدة القصيدة فيه بينة، وأن شخصية الشاعر ليست أقل ظهوراً منها في أي شعر أجنبي، وإنما جاء هذا الخطأ من اتخاذ هذا الشعر
الجاهلي نموذجاً للشعر العربي، مع أن هذا الشعر الجاهلي - كما قدمنا - لا
يمثل شيئاً ولا يصلح إلا نموذجاً لعبث القصاص وتكلف الرواة" انتهى.
وقد كنا نصحنا لـ طه في حديثنا معه أن يتثبت إذا كتب في جملة جملة
ومعنى معنى، فإذا فرغ من الإملاء رجع إلى كلامه فعارض بعضه على بعض
ليتقي المناقضة، فإنه قد يبني ويهدم على نفسه في بضعة أسطر.
وأنت تراه هنا يزعم أن المستشرقين أنكروا الوحدة والشخصية في الشعر
العربي، ثم يزعم أن ذلك إنما جاءهم من اتخاذ الجاهلي نموذجاً، فكان
المستشرقين هؤلاء لم يقعوا على الشعر الإسلامي، ولو اطلعوا عليه لوجدوا فيه الوحدة والشخصية كما وجدهما طه. فإذا كان المستشرقون من الجهل بهذه المنزلة فما قيمة حكمهم، وإذا كانوا قرأوا الدواوين الإسلامية وطبعوا بعضها فما قيمة كلام طه؛ فإن قال إنهم اطلعوا على الشعر الإسلامي وجهلوا الوحدة والشخصية فيه، قلنا: فكيف يكون الخطأ
"إنما جاءهم من اتخاذ الشعر الجاهلي نمودْجاً"
وهم يعمون الشعر العربي كله جاهلياً وإسلامياً بالحكم؟