(قالت) : وما أرى طاحين إلا معدِّلة من طباعنا ومجددة في حياتنا، ثم

بالغة بنا أسمى منزلة في مصالح الدنيا، وهي لا تجشمنا إلا أن نتبعها، وما في

اتباعها كبير تعب ولا صغيرُهُ، وهي فيلسوفة وأنتن جاهلات، فسبيلها ما شاءت لنفسها وسبيلكن ما شاءت لكن!

قالت النملة العاقلة: إن هذا فرع ليس من أصله، وإنما نحن أمة من النمل

ومعنا من فضيلة الكد والصبر عليه، والدأب والمطاولة فيه، ومن صحة التقدير وحسن التاني للعواتِب البعيدة، ما لو وُزن بمنافع الأجنحة كلها لرجح بعضه على جميعها، وإذا كنا بطيئات وكنا نعمل أبداً فما ضرر ذلك إن كنا لا نسأم أبداً، وإن البطء والقوة إلى زيادة، خير من السرعة والقوةُ إلى نقص، وإنما مثلنا

مثل الذي قال: هيهات إن عظمة لا تشترى بذهب الدنيا!

قالت النملة: وكيف كان ذلك؟

قالت: زعموا أن رجلاً فقيراً أيسر بعد الخلة الشديدة، وأقبلت عليه الدنيا

بعد إدبار طويل، فكانت كالنهر مقبلاً على مصبه: إنما همته أن يندفع لا يثنيه

عن ذلك شيء، وكانت لا تطلع شمس يوم إلا جاءته مع أشعتها أكياس

الدنانير، كان له شمسين إحداهما ذهب، وذلك من غنى الرجل وتيسيره.

وجعلت الأقدار الجليلة تطرق عليه بابه لا تهدأ ولا تنقطع، فما يستقبل نعمة إلا طرقت عليه أخرى، واتخذ الدوابَّ والحاشية والموكب، فركب ذات يوم فنفرت به الدابة واعتراها ما يعتري أمثالها من الهيج والتقحم والمخاطرة، فأذرته عن ظهرها ورمت به كما ترمي بخشبة أو حديدة، فأصابت قدمه حجراً فكسرت كسراً لا انجبار له، فكان لا ينهض بعدها إلا مُتحاملاً ولا يخرج إلا محمولاً، وتضاعفت النعمة وجعلت تفشو وتمد كأنَّ فيها روحَ تيار شديد ينبعث من السماء.

قالت: ولما كان يوم العيد خرج على قومه في زينته، فرآه طالبُ عالم

فقير كان يمشي مع أستاذه - وكان أستاذه حكيماً - فبهره ما عاين من حال الرجل وقال: يا سيدي، ما أجمل النعمةَ وما أحسن أثرها على صاحبها، وإن الله ليدير حركة الأرض ولكنه ترك للمال أن يدير حركة أهل الأرض فَنَحلُه بذلك شيئاً من الإلهية، وما أشقى المحرومَ وأكثر عناءَ الفقير، فهو المسخر ولا ريب، وليس من البلاء أن مثلي لم يزل يحيا.

ولكن البلاء كيف يحيا!

فقال الأستاذ: هون عليك يا بني، فإن كل ما تراه فنعلُك خير لك منه، لأنك تنتعل على قدم صحيحة وهذا الرجل ما جاءه الغنى يجري إلا ليقعد هو فلا يمشي! وأنت تظن

طور بواسطة نورين ميديا © 2015