قال دمنة: وكيف كان ذلك؟
قال: زعموا أن نملة خرجت تسعى فيما يسعى له النمل، فأبطات على
قَبيلها أياماً وافتقدها جماعتها، وكان يقال لها "طاحين" (?) فلما طال غيابها قالت نملة: يا أيها النمل إن طاحين لبلاء علينا، وهي لصيقة فينا تعَدُّ منا وليست هنا، فإنا نعمل فيما يسرنا الله له من الكدح والدأب على مذهب أسلافنا وعلى العِرْق الذي فينا وهو ميزان فضائلنا وعيار مصالحنا، وطاحين هذه أبداً تعمل على مذهب الزنابير فيما ليس تحته طائل ولا معه فائدة إلا الطنين يذهب في الهواء فلا ينفعنا، واللسعُ يذهب في أجسامنا فيضرنا، وهي تزعم أنها تريد الفائدة لنا
ولا تنفك تعمل بزعمها ثم لا تعمل إلا ضراً، فما أحراها أن تذهب بنا جميعا
في بعض حماقاتها، وإني أحذركن ما تتورط فيه بجهلها، فإن المصيبة الواقعة
بالناس من الرجل الأحمق يقع معها عذره فيكون مصيبة أخرى، وإنا نجد في
كتب الحكمة أنه متى اغتر العاقل بالأحمق فتابعه وسكن إليه واتخذه دليلاً
لمراشد أموره، كان في الأحمق المأفون حماقة واحدة وفي ذلك العاقل
حماقتان!
قال: فانتدبت لهاكبيرة من النمل كانت من قبلُ أستاذةَ طاحين، وقالت:
ويلك أيتها الجاهلة المغرورة بقديمك وأهل قديمك! ألا تعلمين أن طاحين
عالمة هذه القرية ومعلمتها منذ كذا وكذا.
وأنها لم تبرح في ألم ومضض وعناء مما تفكر في تجديدنا وإلحاقنا بأمة الزنابير والعصافير، لتكون لنا مملكة في
الأرض ومملكة في الهواء؛ أما إنه ليس من الهلاك أن نهلك معها في سبيل
التجديد، بل الهلاك والله أن نحيا معك ومع أمثالك في هذه المعيشة المملولة
التي لا نن فيها ولا جمال ولا متاع من متاع الطباع الجديدة العابثة الساخرة
الكافرة المستهترة بالفنون ولذاتها ومناعمها، فما نبرح ندأب الساعات الطويلة في جر الحبة والذرة والهنة من الهنات، وبعد أن نكون أضعنا ساعات أطول منها في التماسك والتفتيش عنها؛ ولو قد تشبهنا بغيرنا، ولو قد طرنا، لكانت الحياة أضعاف ما نحيا، والأسباب مطلقة مباحة مَن غَلَبَ سَلَب، والأمور متروكة مخلاة من أقدم لها سُخرت له، وإن أعجز العجز أن لا نكون كلما نريد ولا نريد أن نكون، ولو صدقت هِمة النملة منا ثم أرادتا أن تكون جواداً سابقاً أو فيلاً عظيماً لكانت!