لم تكن على مسافة بعيدة عن عاقبة غفلتهم فأنت على مسافة دانية من عاقبة
مكرك، وإن القدر إن خلاك فلا يفلتك من يمينه إلا ليأخذك بيساره، فلا تستنِم إلى مسافة ما بين القبضتين إذا كان ما من الوقوع في إحداهما بُد.
وقد كان يقال إنه لا أحمق من الغفلة في اثنين: الضارب في الصحراء
تلفحه شمسها ويتنفس النار من هجيرها، فيغتسل بما يحمل من الماء فيبترد
ويستزوح ويدفع عنه القيظ، وقد أنسته اللذة العاجلة ما أمامه وعمي عن
الصحراء ومعاطشها وظن أن قد غلبها في راحة نفسه والترفيه من أمره، فلن
يكون منها بعد أن شربت ماءه في موضع إلا أن تشرب روحه في موضع آخر، وغفلة الماكر الغاش يطمئن إلى دَحْسِه وغشه وهو يعامل فيهما أمة كاملة.
فيوشك أن يلقى ما لقي الرجل ذو الأقفال حين زم بأقفاله على فضيحتين فكانت أقفاله الفضيحة الثالثة.
قال كليلة: وكيف كان ذلك؟
قال دمنة: زعموا أن رجلاً حازماً فيلسوفاً كان في بلد كذا، وكان مخلصاً
للناس ما يبرح لهم حق يقضيه، فكتب وألف زمناً، ثم خطب وتكلم حيناً، ثم حل وعقد في حبال السياسة، ثم إنهم أنشاوا مدرسة لهذه الأمة فلم يجدوا غيره يتولاها (إذ كانت الآمال فيها على قدر الثقة به، وأنه كان رجلاً سليم دواعي الصدر طيب النفس حسن الظن بمن يستخلصه، وكان من جماعته ومريديه رجل مغرور ينتسب في آرائه وعلمه إلى هذا الأستاذ الجليل، كما تكون النواة في الثمرة الناضجة، فهي مرارة تحت حلاوة، وهي من أثر طين الأرض في أثر ماء الجنة.
وهي شيء لولا موضعه من الثمرة لم يكن له موضع إلا بحيث ينبذ
ويُهمل، ولكن الأقدار، هي وضعته بذلك المكان فكأنه غلطة يغطيها الصواب.
ثم إن هذا المغرور سعى سعيه وتحمل على الرجل الطيب بشفاعة غفلته
الفلسفية، فإنه يقال إن لكل فيلسوف خصالاً يفوق بها الناس ولكنها لن تجتمع له إلا أحدثت فيه خصلة يفوقه الناس بها، ما من ذلك بد، لأن المعنى الإنساني المحض لم يخلص في أحد غير الأنبياء، فالإنسانية فيهم مُصفاة وفيمن عداهم كالماء: تُصفيه وتتركه في سقائه فإن لم ينشئ الترك فيه كدراً أنشأ فيه معاني الكدر، فأنت واجد بعدُ في قرارته من الهوائم والجراثيم، وهي معاني ما يحمله الماء العكر من الأخلاط والغبار والطين أو هي شر منها، ولولا حكمة الله هذه وأنه لا بد لكل فيلسوف من الغفلة والسقطة، وأن العلم لا يدفع من ذلك نوعاً إلا ليجلب نوعاً آخر - لما رأيت عالماً أسقطَ نفساً من جاهل، ولا فيلسوفاً