جدَّت في إبداعه وإنمائه، وأضافت أعمارها صفحات فيه، واستخلصت له آداب الفرس والهند واليونان وغيرهم، فأعربت كل ذلك ليندمج في اللغة لا لتندمج اللغة فيه، وليكون من بعضها لا لتكون من بعضه، وليبقى بها لا لتذهب به؟
ومن ذا الذي يزعم أن العرب هم كل الأرض، وأن آدابهم خلقت على
الكفاية لا تحتاج إلى تحرير أو تبديل؛ ولكن من ذا الذي يرضى أن يجعل لكل
أرض عربية لغة عربية قائمة بنفسها، ولكل مصر أدباً على حياله، ولكل طائفة من الكتاب كتابة وحدها؛ ومن ذا الذي فعل ذلك أو حاوله في التاريخ الإسلامي كله على طول ما امتد وتساوق؟
لقد كانت القبائل العربية مادة هذه اللغة وسبب اتساعها واستفاضتها.
وكان فحول الشعراء من الجاهلية كأنَّ كل واحد منهم قبيلة في التفنن والإبداع مجازاً واستعارة وبديعاً، ثم جاء القرآن الكريم فكان الغاية كلها، ثم تتابع الشعراء والكتاب والأدباء فمن لم يزد منهم على الموجود لم ينقص منه، ثم جاء أدباء المترجمين وفيهم من جمع البراعة من أطرافها فكانوا هم القبائل
الحديثة في معاني اللغة وفنونها، وكان مذهبهم في كل ما ترجموه وما اقتبسوه
هذه الكلمة التي قالها العتابي " اللغة لنا والمعاني لهم" يريد العجم.
وكان ينسخ من كتبهم وقد يسافر في طلب الكتب شهراً، والعتابي من أبلغ من أخرجتهم العربية وكان واحد دهره في الأجوبة المسكتة ولولا فصاحته لما بقي اسمه.
فلو صنعت القبائل الحديثة من أبي خالد الفرنسي إلى أبي خالد الإنجليزي
هذا الصنيع لكان رأس أمرهم الحرص على اللغة، ثم إن شدُّوا عليها أيديهم
فسيحرصون على كتبها التي هي مادتها، ثم إن جمعوا هذه فيدرسونها
ويتناقلونها، ثم إن هم تدارسوها فقد رسخت فيهم الملكة واستحكم عندهم
الذوق وانقاد لهم الطبع واستفحصوا واستجادوا؛ فإذا انتهينا إلى هذا لم يبق من موضوع يخالفون عليه، وصار أدباء اللغة جميعاً جنساً واحداً ولم يبق إلا النقد يبين شخصاً من شخص وطريقة من طريقة، واللغة بعدُ محفوظة سليمة وإليها المرجع كله ولها العمل كله وهي الأمر كله، وهذا ما تقوم عليه آداب الأمم المستقلة المنفردة بجنسيتها ومقوماتها.
ألا يرى أبو خالد الإنجليزي وأبو خالد الفرنسي كيف تُباهي كل أمة في
أوروبا بلغتها، وكيف يفخر الفرنسيون بلسانهم حتى إنهم ليجعلونه أول ما
يعقدون عليه الخنصر إذا عدوا مفاخرهم ومآثرهم، وهل أعجب من أن المجمع العلمي الفرنسي يؤذن في قومه بإبطال كلمة إنجليزية كانت في الألسنة من أثر