فلا ينكر عليه ضعف ولا لحن ولا يهجن له أسلوب ولا عبارة وأن يكون له كل ما يعرض له من النقص معتبراً من الكمال العصري. . .
وترى همَّ الثاني أن يُكره الآداب العربية على أساليب غيرها ويقتسرها جزاً وتلفيقاً وتلزيقاً ويبسط فيها المعاريض الكلامية، فهذا عنده كذب ولا دليل عليه، وهذا محال ولا برهان فيه، وهذا قائم على الشك، وذاك على ما لا أدري ولا يدري أحد.
حدثني كاتب شهير من هذه الفئة، فكان من أعجب ما قال: إن ابن
المقفع فصيح بليغ، وهو مع ذلك ليس بمسلم ولا عربي ولا شأن له بالحديث
ولا بالقرآن ولا بالدين، وساق ذلك رداً على ما قلته من أن لا فصاحة ولا لغة إلا بالحرص على القرآن والحديث وكتب السلف وآدابهم.
ولا أدري والله كيف يفهم هذا وأمثاله، ولكنك تتبين في عبارته مبلغ الغفلة التي تعتري هذه الفئة من نقص الاطلاع وضعف الفكر وبناء الأمر على بحث صَحفي بلا تحقيق ولا تنقيب، وترى كيف يذهبون عن الأصل الذي يقوم عليه الغرض ثم يحاولون أن يؤصلوا له على قدر عقولهم وأفهامهم، وقد تفلح الفلسفة في كل شيء إلا في
تعليل ما علته معروفة، وهل نشأ ابن المقفع إلا على اللغة العربية والأدب
العربي والرواية العربية، وكان من أقوى أسباب فصاحته المشهورة أخذه هذه
الفصاحة وهذا الأسلوب عن ثور بن يزيد الأعرابي الذي قالوا فيه إنه كان من
أفصح الناس لساناً. ولكن أين من ينقب عن هذا ونحوه في تلك الجماعة أو - يتوهمه فيقف عفى حذه، وهل علموا أن ابن المقفع على انصرافه إلى النقل من الفارسية ولليونانية اختار يوماً أسلوب العامة في زمنه، أو استجاده للنقل
والترجمة، أو خرج على الأدب الذي تادب به أو حاول فيه محاولة، أو قال
بوجوب هدم القديم لأنه لا يرى للعرب مثل الذي لا يعرف لليونان من العلم
والحكمة والخيال وأساليب الحكاية الكتابية، أو نزل بأسلوبه وكتابته منزلة من يمكُر الحيلة في اللغة أو يكيد للأدب أو يساهل نفسه لغرض كالذي في نفوس هؤلاء المجددين؟
قال لي ذلك الكاتب في بعض كلامه؛ إن الميراث العربي القديم الذي
ورثناه يجب هدمه كله وتسويته بالعدم. تلت: أفتحدث أنت للناس لغة وأدبا وتاريخاً ثم طبائع متوارثة تقوم على حفظ اللغة والأدب والتاريخ أم تحسب أنك تستطيع بمقالة عرجاء في صحيفة مقعدة. . . أن تهدم شيئاً أنت بين أوله وآخره كعود من القش يؤتى به لاقتلاع جبل من أصوله.
من أين جاء الميراث العربى وكيف اجتمع وتكامل إلا من القرآئح التي