وانظروا في الكلمة ولا تجاوزوها ودققوا الفهم قبل أن تدققوا التخريج فإن
السقف كان فوق زيد حين كان زيد جالساً في الغرفة، ثم صار تحته حين صعد زيد إلى السطح؛ وهذا حل المشكلة التي هدمت بيتاً وقتلت رجلاً! وهي بعينها مشكلة أستاذ الجامعة، فلا تجد في هذه صعوبة إلا إذا جريتَ على طريقته في التاريخ والاعتماد فيه على العقل والرأي دون المادة متجاهلاً أن العقل ينتج في كل العلوم فيصلحها إلا في التاريخ فإته يفسده إذ لا تنتج فيه إلا المادة، وإذ حاجته إلى العقل المفسر منه لا إلى العقل المنتج فيه، والعقول أنواع بطبائعها وخصائصها ودرجاتها، فإذا تحكمتَ في التاريخ نوعتَه وهو شيء واحد لا يختلف ولا يقبل الزيادة، إذ كان وانتهى ووُضع عليه خاتم الفناء.
انظر يا سيدنا ومولانا طه حسين في كتاب العمدة في صفحة 59 من
الجزء الأول. تجدهم حلُّوا مشكلتك منذ ألف سنة بقولهم إن امرأ القيس يماني
النسب نزاري الدار والمنشأ - يعني المولد والمربى. ولا تؤاخذنا، في التفسير
لك - فقل أنت الآن يا سيدنا ومولانا، هل تريد أن تولد لغة اليمن في دمه
فيكون دمه معجماً لغوياً لا يجري كريات حمراء بل كلمات واشتقاقات
وأساليب؛ وهل العربية أية لهجة كانت إلا على الدار والمنشأ بالسماع
والمحاكاة؛ كان سبيلك يا سيدنا ومولانا أن تثبت لنا بدياً أن امرأ القيس وُلد
ونشأ في اليمن ثم تنقل بعد ذلك في قبائل العرب، ثم يكون لك أن تقول:
فكيف نسي لغته؟ وماذا نرى في قول بعض الرواة إن الشعر يماني واحتجاجهم لذلك في الجاهلية بامرئ القيس، وفي الإسلام بحسان بن ثابت، وفي المولدين بأبي نواس وأصحابه مسلم بن الوليد وأبي الشيص ودعبل - وكلهم من اليمن - وفي الطبقة التي تليهم بالطائيين أَبي تمام والبحتري.
أكل هؤلاء وهم ينسبون إلى اليمن قد كانوا إلا على لغة الدار والمنشأ؟
ذلك هو كل ما في كتاب طه من المسألة اللغوية، وبقي أنه يجعل من
أسباب وضع الشعر سهولةَ ألفاظه، ويطلق ذلك في كل الشعراء الجاهليين قياساً واحداً، مع أن الرواة العلماء نصوا على أن الأعشى يحيل في لفظه كثيراً ويسفسف دائماً ويرق ويضعف، وقد جعلوه بإزاء النابغة، قالوا: وألفاظ النابغة في الغاية من البراعة والحسن.
فإذا كان هذا الشعر وضعاً وصنعة فما الذي شدَّ النابغة وأرخى الأعشى؛ وقد أدرك الأعشى الإسلام وكان جاهلياً، وكان أهل
الكوفة يقدمونه على الشعراء، فلا شبهة في وجوده؛ وكان من شعراء ربيعة