كان أبو خالد النميري في القرن الثالث للهجرة، وكان ينتحل الأَعرابية
ويتجافى في ألفاظه ويَتبادى في كلامه ويذهب المذاهب المنكرة في مضغ الكلام
والتشدق به، ليتحقق أنه أعرابي وما هو به، وإنما ولد ونشأ بالبصرة، قالوا
فخرج إلى البادية فأقام بها أياماً يسيرة ثم رجع إلى البصرة فرأى الميازيب على
سطوح الدور فأنكرها وقال: ما هذه الخراطيم التي لا نعرفها في بلادنا. . .؟ فهذا طرَف من العربية يقابله التاريخ في زماننا هذا بطرف آخر من جماعة
قد رُزقوا اتساعاً في الكلام إلى ما يفوت حد العقل أحياناً، ووهبوا طبعاً زائغاً
في انتحال المدنية الأوروبية إلى ما يتخطى العلل والمعاذير، ورأوا أنفسهم أكبر
من دهرهم، ودهرهم أصغر من عقلهم، فتعرف منهم أبا خالد الفرنسي، وأبا خالد الإنجليزي، وغيرهم من أجازوا إلى فرنسا وانجلترا فأقاموا بهما مدة ثم رجعوا إلى بلادهم ومَنبتهم ينكرون الميراث العربي بجملته في لغته وعلومه
وآدابه، ويقولون: ما هذا الدين القديم؛ وما هذه اللغة القديمة؟ وما هذه
الأساليب القديمة؟ ويمرُّون جميعاً في هدم أبنية اللغة ونقض قواها وتفريقها.
وهم على ذلك أعجز الناس عن أن يضعوا جديداً أو يستحدثوا طريفاً أو يبتكروا بديعاً، وإنما ذلك زيغ الطبع، وجنون الفكر، وانقلاب النفس عكساً على نشأتها، حتى صارت علوم الأعاجم فيهم كالدم النازل إليهم من آبائهم وأجدادهم وصار دخولهم في لغة خروجاً من لغة، وإيمانهم بشيء كفراً بشيء غيره كأنه لا يستقيم الجمع بين لغتين وأدبين، ولا يستوي لأحدهم أن يكون شرقياً وإن في لسانه لغة لندن أو باريس!
ومنهم كتاب يكتبون بالعربية ويرتزقون منها - وأدباء يبحثون في آدابها
وفنونها، وكلهم مجيد محسن إلا حيث يكتب كاتبهم في إصلاح الكتابة ويبحث باحثهم في إصلاح الأدب، فهنالك ترى أكثر هَمِّ الأول أن تسلم له عاميته