لا جرم كان "البحث الفني واللغوي لا هو الأساس الذي يقوم عليه مثل هذا

الكتاب؛ إذ لا معنى للتخرص والحدس وقولِك أشد في هذا وأنكر هذا وأكبر

الظن كذا، فكل عافي وسوقي ونبطي وزنجي يستطيع أن يتناول الميزان الدقيق

فيُميله ويجعله أكذب الموازين وأخبثها ولا يعجزه أن يسوغ فعله بعذر أو دليل وإن لم يكن من القوة على ذلك والتوسع فيه بحيث يصلح أستاذاً، ولكن العجب أن شيخ الجامعة لما انتهى إلى البحث الفني واللغوي تخبط واختل وذاب واضمحل، ورأينا هذا البحر العظيم الذي يقال له الفني واللغوي، مستنقعاً صغيراً يخوض منه الشيخ في ضحضاح من الماء الراكد، ويخرج مدعياً الغرق وما يغرق أحد في مثله إلا إلى الكعبين.

وكان جديراً بمن يقول الفني واللغوي أن يدلنا على نمط كل شاعر

وطريقته ومذهبه وعمودِ شعره وأسباب التوليد عليه بخاصته ووجوه الصنعة في كلامه وأن يعيد لنا من علمه الواسع ذلك العهد الأول الذي كان يقول فيه الرواة لم يصح لامرئ القيس إلا كذا، ولم يصح لطرفة وعبيد إلا كذا. وهذه الأبيات وضعها فلان أو زاد فيها فلان، بيد أن الأستاذ بعد أن وصف هو الأوقيانوس الفني واللغوي وأنه سينتهي بنا إلى القارة الجديدة المسماة أمريكا، اختصر الطريق إلى أمريكا هذه فجاء بها ووضعها في العدوة الأخرى من المستنقع. . .

إذ يقول في صفحة 131: "وإذن فلنتناول مع الإيجاز الشديد شيئاً من البحث عن الشعر والشعراء في العصر الجاهلي، لنرى إلى أي شيء نستطيع أن نطمئن من هذه الأشعار".

وفي صفحة 152 بعد أن روى مطلع قصيدة لعبيدة بن الأبرص: " لولا أننا

نؤثر الإيجاز ونحرص عليه لروينا لك هذا الشعر ووضعنا يدك على موضع

التوليد فيه. . . ".

قلنا: ففي أي شيء هذا الكتاب إذن ما دام " الإيجاز الشديد وإيثار الإيجاز

والحرص على الإيجاز" هو أساسَ البحث الفني واللغوي فيه، على حين أن

الكتاب هو البحث وكل ما عداه حشو واستعانة وأن امرأ القيس لا يمحى من

التاريخ "بالإيجاز الشديد"، ومهلهلاً لا يكون من رجال الأساطير "بالحرص

على الإيجاز". . . وماذا يغني عنك - ويلك - أن تجمع لحرب أمة مصانع

كروب ومدافعها ومخترعاتها - عدةَ ملايين من المقاتِلة إذا لم يكن لديك إلا

بضعة مدافع بالإيجاز الشديد. . .؟

ألا تستحي يا طه أن تسقط بالجامعة هذا

طور بواسطة نورين ميديا © 2015