مميزات الأستاذ وخصائصه؛ غير أن المنطق أيضاً لا يستقيم إلا بالقريحة
النفاذة، وهذه القريحة من بعض أسبابها الطبيعةُ الشعرية، فلما خذلته هذه
الطبيعة في المنطق كما خذلته في الشعر، عدل إلى طبيعة الجدل وهو فن من
الكلام قاعدته الأشكال والمقاييس، وبناؤه على التنظيم والترتيب، ومادته الثرثرة والاستطالة؛ وأعظم مقوماته اللجاج والإصرار، ولا يُسأل فيه ما الحقيقة ولكن ماذا تريد أن تكون الحقيقة؟ ولا ما اليقين ولكن ما ظنك باليقين ولا يقال فيه ما البرهان ولكن ما الاعتراض، ولا ما النص ولكن ما التأويل وكل ذلك إن لم تقم به الجرأة والحماقة ولم يكن سبيله من السخرية وعدم المبالاة ومن الشك والوساوس وما جرى هذا المجرى، لم يستوِ منه شيء لصاحبه وخرج منه مخذولاً لا هو في حجة ولا مغالطة.
فطه حسين مُكرَهٌ على طريقته في الأدب إكراهاً ما دام يريد أن يكون شيئاً
مذكوراً، وإنما كان سبيل مثله أن - يتبع - غيره ويقلد ويحتذي ولا يستنكف أن ينزل على رأي من هو أذكى منه ولا يأنف أن يدخل في قوانين الناس، فلما أبى ذلك وغلبته طبيعته وأراد أن يبتاع وما فيه من الابتداع شيء، كان كل عمله أن يفسد عمل غيره؛ ولا طريقة إلى ذلك إلا أن ينقاد إلى الظن، ولا سبيل لاتباع الظن إلا الشك، ولا برهان على الشك إلا من غاية صاحبه، وهذه الغاية راجعة إلى الطبع والخلق وحالة الفكر، وكما يكون الشك أول اليقين في أهل الطباع السليمة والأفكار القوية والأذهان المرهفة، يكون آخر اليقين في ذوي الطباع المضطربة والأذهان البليدة.
فطه رجل عالم فاضل، تراه من أحسن أدبائنا إذا وقف عند الحفظ
والمراجعة، يقابل بين تواريخ الأمم ويستخرج ما فيها من أنواع المشابهة
والمباينة ويعمل في ترتيبها، وتصنيفها، وإذا وقف عند العقل فأخذ يجمع
الحواشي والمتون والتعاليق ويضم مسألة إلى مسألة وكلاماً إلى كلام في أي علم شاء مما يحسن انتحاله، ولكنك تراه من أسخف الأدباء إذا حاول التجديد والإبداع، ثم من أضعفهم إذا تعاطى ما ليس في طبعه ولا قوته مما يحتاج إلى الطبيعة الشعرية والذهن الحاد والرأي والاستنباط؛، ولا أدل على ذلك من كتابه: الشعر الجاهلي، ثم من القصص التي نقلها عن الفرنسية. فقد كنت أقرأ هذه القصص واحدة بعد واحدة، وهي لأعلام البيان الفرنسي، فلا أراها إلا كعظام الموتى ليس فيها غير المادة - الفطرية ونظام - الهيكل وهيئته -، ولو كانت كذلك - في أصل لغتها لم يكن الأدب الفرسسي إلا فضولاً، وكان أدباء فرنسا أضعف الأمم