قال: "وإذن فقد كان القصص أيام بني أمية وبني العباس في حاجة إلى مقادير لا حد لها من الشعر يزينون بها قصصهم ويدعمون بها مواقفهم المختلفة".
فتأمل بالله كيف يقاس أولُ الزمن أيام بني أُمية على آخر الزمن أيام قصة
عنتر؛ ونحن نقرر للشيخ أن القصص أبعد أنواع الكلام عن اجتلاب الشعر وعن الحاجة إليه ولا يدخله منه إلا مقادير قليلة حيث يراد الشاهد والدليل، فسبيل الشعر في هذا سبيله في غيره من فنون الأدب جميعاً. وإذا وضع القاص شعراً أو وُضع له شعر فإنما يكون قليلاً على جهة التظرف وليستروح إليه من الجد ويعلل به من يقص لهم استجماعاً للنشاط، فهذه واحدة، والثانية أن يقصد إلى الإغراب في الخبر الذي يقصه ليقال إنه واسع الحفظ، وهذه كانت سبيل الرواة أيضاً فيما وضعوه من الشعر، والثالثة أن يكون القاص قد وعظ ويريد المبالغة في التأثير فيُجري في كلامه قليلاً من الشعر كما تتغرغر الأعين ببعض الدمع؛ وليس غير هذه، ففي أيها تجد المقادير التي لا حد لها.
ثم يقول الشيخ طه: "وأكاد لا أشك في أن هؤلاء القُصاص لم يكونوا
يستقلون (يريد يقومون) بقصصهم ولا بما يحتاجون إليه من الشعر، وإنما كانوا يستعينون بأفراد من الناس يجمعون لهم من الأحاديث والأخبار ويلفقونها، وآخرين ينظمون لهم القصائد (صارت قصائد لا أبياتاً ومقاطع) .
قال: ولدينا نص يبيح لنا أن نفترض هذا الفرض، فقد يحدثنا (كذا) ابن سلام أن ابن إسحاق كان يعتذر عما (كذا) كان يروي من غُثاء الشعر فيقول: لا علم لي بالشعر.
إنما أوتى به فأحمله" فقد كان هناك قوم إذن يأتون بالشعر وكان هو يحمله.
فمن هؤلاء القوم؟ انتهى خلط الرجل.
وهذه عجيبة من عجائب الفهم.
فإذا قال ابن إسحاق إنما أوتى بالشعر فأحمله، وكان ابن إسحاق من المعروفين بالكذب، لم يكن كلامه عند طه إلا صدقاً، ثم لم يكن معنى كلامه إلا أن قوماً يدقون عليه بابه ويهزأون به ويقولون يا ابن إسحاق خذ الشعر واروِه؛ ومن ترى يكون هؤلاء المجانين الذين يُغنِتون أنفسهم ويكدْون الذهن ويتعبون الخاطر في عمل الشعر ليسمعوه بعد ذلك مروياً
لعاد وثمود وفلان وفلان ممن هلكوا وبادوا.
إذا كان ابن إسحاق بهذه الغفلة وجب أن لا يُصدق ولا يؤخذَ كلامه مأخذ النص ألبتة.
على أن عبارة ابن سلام هكذا: وممن هجن الشعر وأفسده وحملَ - يعني
روى - منه كل غثاء: محمد بن إسحاق، وكان من علماء الناس بالسيَر، فقبل الناس منه الأشعار، وكان يعتذر منها ويقول: لا علم لي بالشعر إنما أوتى به