فأحمله؛ ولم يكن ذلك عذراً، فكتب في السيرة من أشعار الرجال الذين لم
يقولوا شعراً قط. . . الخ!.
فأنت ترى أن الكلام يدور على تهجين الشعر وإفساده، ومثل هذا لا يستقيم
في العقل أن يعتذر منه ابن إسحاق بقوله لا علم لي بالشعر، إلا إذا كان رديئاً فاسداً وكان من ساقط الكلام وما لا يجوز على أهل البصر بالشعر، فإذا كان على هذه الصفة فلم لا يكون من عمل ابن إسحاق الذي لا علم له بالشعر ويكون العذر تلفيقاً من كذبه؛ وإن يكنْ أن هناك قوماً يصنعون له الشعر ويأتونه به، فيبقى أن ابن إسحاق
ليس أعجمياً؛ بل عربياً بليغاً؛ وكلامه في السيرة من الطبقة الأولى؛ ومن كان بهذه المنزلة وكان في حاجة إلى الشعر وجب عليه أن يستجيد له فلمَ يُهمل أن يختار لعمل الشعر شعراء وهم كثيرون فيأتونه بالجيد لا السفساف، وإذن فلا يكون ما يحمله غَثاً ضعيفاً؛ وإذن فلا وجه لأن يعتذر منه بقوله لا علم لي بالشعر.
فإن قلت إنه كان بليغاً يميز جيد الكلام من رديئه وكان هو الذي يصنع الشعر الهجين الفاسد وجب أن لا يرضاه لمكانه من الضعف، قلنا: هذه شيمة العلماء، حتى إنهم جعلوا شعر العلماء طبقة على حدة، وهم يتسمحون في الرديء من شعرهم لأنهم لا ينافسون به أحداً ولأنهم غير معدودين في الشعراء.
وطه حسين نفسه يقع في مثل هذا. فهو يميز الشعر؛ وإن له لشعراً في
منتهى الركاكة، سنطرف القراء بشيء منه في بعض ما يأتي:
فهما اثنتان في تأويل خبر ابن إسحاق لا ثالثة لهما، وكلتاهما نقض
للأخرى، وكلتاهما هدم على أستاذ الجامعة ودليل على سوء فهمه.
وهنا نمسك القلم خمس دقائق لنضحك من الجامعة كما نضحك من
شارلي شابلن، الممثل الهزلي المشهور، فقد كشفت الجامعة المصرية عن آثار
مصنع إسلامي عظيم للتلفيق والكذب رؤساؤه العمال من القصاص والعمال فيه طائفتان عظيمتان، إحداهما لتلفيق الأخبار والأخرى لوضع الشعر، وكلما اجتمع مقدار من إنتاج المصنع أرسل إلى الأسواق، وذلك حيث يقول طه في صفحة 96: "أليس من الحق لنا أن نتصور أن هؤلاء القصاص لم يكونوا يتحدثون إلى الناس فحسب، إنما كان كل واحد منهم - تأمل - يشرت على طائفة غير قليلة من الرواة والملفقين ومن النطام والمنسقين، حتى إذا استقام لهم مقدار من تلفيق أولئك وتنسيق هؤلاء طبعوه بطابعهم ونفخوا فيه من روحهم. . . وأذاعوه بين الناس، ومثلهم لي هذا مَثلُ القاصق الفرنسي المعروف
" إسكندر دوماس الكبير" اهـ.