هناك بين العرض والطول الملتبسين في خيط واحد، ثم اجمع شواهدك
وحججك واستعرضها حجة حجة ودليلاً دليلاً فإنك مشرى الجمل يهدم عليك ذلك المنطق كله ببعره. . . وستتعلم هناك منطقاً آخر تؤمن فيه أشد الإيمان بأن الناقة والجمل ليسا من الحيوان، بل هما الكوكبان اللذان خلقهما الله بقدرته لتلك السماء من الرمل.
إن أقوى أسباب الخطأ في تاريخ الأدب شيئان: ضعف الفكر عن النفاذ
في إدراك الأسرار التي انطوى عليها ذلك التاريخ، وضعف المادة التي تجمع
لك صور التاريخ وتعين أجزاء هذه الصورة وتحقق أوضاع هذه الأجزاء؛ أما
الفكر فلا نفاذ - له إلا - أن يكون فكر شاعر كاتب بليغ على أصل من الفلسفة والذكاء الشفاف والعلم العربي، وأما المادة فلا قيمة لها ما لم تكن من الاتساع بحيث تتناول عصراً عصراً ورجلاً رجلاً وما نقص من ذلك، فالنقص في التاريخ بحسبِه وعلى مقداره.
ولنضرب مثلاً بأستاذ الجامعة؛ فقد صنع فصولاً في أبي نواس جعل فيها
هذا الشاعر الماجن الخليع المتخنث ديناً لعصره ومذهباً للحياة في زمنه فقال إنه كان عصر شك وإلحاد وزندقة؛ وغفل عن قول الأصبهاني جامع شعر أبي
نواس: " إن تعاطيه لقول الشعر كان على غير طريق الشعراء لأن جل أشعاره في اللهو والغزل والمجون والعبث كأشعاره في وصف الخمر ولغة النساء والغلمان، وأقل أشعاره مدائحه، قال: وليس هذا طريق الشعراء الذين كانوا في زمانه".
فإذا كان هذا النص صريحاً قاطعاً في أن شعراء زمن أبي نواس كانوا على
غير طريقته فكيف يكون الزمن نفسه على طريقته.
وما دمنا في طه حسين فلنضرب به هو مثلاً، فقد جاء في كتابه الشعر
الجاهلي بمخزيات كثيرة من الإلحاد والتهكم بالدين، فإذا مضت ألف سنة ثم
جاء أديب في مثل فكره وفهمه العجيب فوقف على كتابه أو نبذٍ منه أفلا يقطع بهذا الدليل إذا لم يجد غير هذه المادة من التاريخ أن الجامعة المصرية كانت في سنة 1926 معهد كفر وإلحاد، ثم ينساق به الفكر إلى الأمة المصرية فيستنبط أنها كانت بقَضها وقضيضها أُمة كافرة ملحدة، لأن الجامعة هي أكبر مدارس الحكومة، والحكومة أقوى مظاهر الأمة الدستورية، ولكن هذا الأحمق - مقدماً وسلفاً. . . - إنما يقع في هذا الخلط الشنيع من ضعف استجماعه لمادة التاريخ وإن كان سديد الرأي صحيح القياس، فلو هو اطلع على برقيات المعاهد الدينية