يجدي علينا صياحهم العلمي أو السياسي أو الأدبي وهم إنما يحترفون هذا
الصياح ويؤجرون عليه ويعيشون منه، كالرجل من أهل الغناء والموسيقى ربما
كان في نفسه مثالُ البؤس والهم والحزن ويستأجره الناس ليغني. . .
إن لشيطان طه سبلاً كثيرة فهو يتراءى لنا في معان مختلفة تذهب بنا أحياناً
بعيداً عن كتابه.
ولكن هذا أيضاً من شؤم كتابه، إذ يرجع هذا الكتاب إلى
أسباب في طباع مؤلفه قائمة على النكر والمراء والزيغ أكثر مما هو راجع إلى
أشباب في التأليف قائمة على البحث والرأي والتحقيق.
فلنعد إلى ما نحن بصدده من القول في فساد رأيه وسوء استخراجه وأنه ليس معه إلا الانتحال على غير توفيق، والخنط على غير هدى والجرأة على غير تحقيق ولا استبصار.
لقد توارد أستاذ الجامعة مع الإمام الجاحظ في استخراج واحد من مسألة
واحدة، وكلاهما شك فيها، ونريد أن نعرض ذلك على الجامعة لنعلم صحة
قولنا إن العالم يأتي بالرأي من مجموع أخلاقه وطباعه أكثر مما يأخذه من صفاته
العقلية، وأنه لو كان طه حسين أذكى الأدباء في الرأي والعقل، وأجمعهم في
المادة والحفظ، وأبلغهم في المنطق والأسلوب، ثم كان على بعض فساده
وزيغه - لوجب تنحيته عن التدريس الأدبي وحماية النشء منه؛ لأن تعليمه ينقل إلى هؤلاء الأطهار الأغفال علمه وأهواءه جميعاً فلا يقوم ما فيها من طيب بما فيها من خبيث.
قال طه في صفحة 152: "وهناك لون من ألوان القصص كان الناس
يتحدثون به ويميلون إليه ميلاً شديداً ويروون فيه الأكاذيب والأعاجيب وهو
أخبار المعمَّرين الذين مُدت لهم الحياة إلى أبعد مما ألف الناس، رويت حول
هؤلاء المعمَّرين أخبار وأشعار قبِلها العلماء الثقاتُ في القرن الثالث
للهجر ة " انتهى.
وقال الجاحظ: "وقد ذكرت الرواة في المعمرين أشعاراً وصنعت في ذلك
أخباراً، ولم نجد على ذلك شهادة قاطعة ولا دلالة قائمة ولا نقدر على ردها
لجواز معناها، ولا على تثبيتها إذ لم يكن معها دليل يثبتها".
فأنت ترى من الفرق بين الجاحظ وطه أن هذا يبالغ ويهوِّل ويتعمد الكذب
فيزعم أن الناس كانوا يتحدثون بذلك النوع من الكذب ويميلون إليه ميلاً
شديداً، كأنه كان شاهدَ أمرهم ورأى الناس يتحدثون ويميلون.
ثم يوهمك أن العلماء الثقات فى القرن الثالث قبلوا تلك الأخبار والأشعار
وما كان الجاحظ إلا