في أيها جاء مما سيستأنفه التاريخ؛ وهذا معنى (مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ) وأيها ذهب مما

يطويه الماضي، وهذا معنى (وَلَا مِنْ خَلْفِهِ) ؛ وليس يخفى عليك أن العصور

يصحح بعضها بعضاً ويكشف بعضها خطأ بعض، وقد يتقرر في زمن ما يثبت

بعد أزمان طويلة أنه كان خطأ فقوله: ((لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ)

من الكلمات التي لا تخطر بفكر إنساني يُظنْ أنه يشخص العصر الجاهلي، بل

هي عِلم من لا يعلم غيره أن ستجد أمور وتحدث علوم وتُمَحَّص تواريخ وتنشأ مخترعات، فلو فهم الجاهل لما تكلم إلا الفاهم؛ وقد قال الله في أشباه طه حسين (وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا) .

ولقد عجبت لأستاذ الجامعة كيف يعتمد في تصور العصر الجاهلي على

التاريخ والأساطير وهو الذي يقول بالشك، وكيف تصح عنده الأساطير ويصح التاريخ العربي دون الشعر الجاهلي؛ وهل جاء هذا الشعر إلا من الطريق التي جاءت منها الأساطير والتاريخ، أي بالرواية والإسناد، ومن الحفظ والتلقين؟

وإذا جاءت ثلاثتها من طريق واحدة وكان الكذب والوضع قد دخلها جميعها

ونص العلماء على أشياء من ذلك في الأبواب الثلاثة، فكيف يكون العصر

الجاهلي في اثنين منها دون الثالث مع أن الوضع فيهما أيسر من الوضع في

الشعر، إذ هما كلام كالكلام لا مؤونة فيه ولا تعب ولا صناعة ولا كذلك

الشعر، وخاصة ما يوضع منه على ألسنة فحول الجاهليين.

إنما جاء أستاذ الجامعة هذا العلم الغريبُ من جهله بالشعر وصناعته

وأغراضه، فهو يحسب أن الشعر الجاهلي لا يكون جاهلياً ولا تصح نسبته إلى الجاهلية إلا إذا مثل الحياة الدينية عند العرب، ولقد ذكر القرآن اليهود

والنصارى والمشركين والصابئة ولم يذكرهم الشعر الجاهلي، بل هو كما يقول في ص 18: "يُظهر حياة غامضة جافة بريئة أو كالبريئة من الشعور الديني القوي. . . " فالقرآن عنده لذلك أصح تمثيلاً، والشعر لذلك عنده غير صحيح.

قال في ص 19: "وقريش كانت متدينة قوية الإيمان بدينها، ولا يمثل لها الشعر الجاهلي من ذلك إلا قليلاً"

فليذكر لنا الأستاذ شعراء قريش من عهد امرئ القيس، وليقل لنا متى كان الشعر في قريش وقد نصوا على أنها أقل القبائل شعراً وشعراء في الجاهلية، ثم - ليذكر لنا هذا الباحث المحقق. . . كيف مثل

الشعر الإسلامي الحياة الدينية الإسلامية، وأين هذا في شعر جرير والفرزدق

والبحتري والمتنبي، وهل يحسب أستاذ الجامعة أن القرآن يجري مجرى الشعر

في الوضع والسبب والغاية؛ ألم يعلم طه حسين إلى سنة 1926 أن القرآن نزل

طور بواسطة نورين ميديا © 2015